أثار مفهوم المثقف الجدل، وما زال، فهو عصي على التعريف، كمفهوم الزمن عند القديس أوغسطين تعرفه لكن ما إن تسأل عنه حتى تكتشف أنك لا تعرفه، ومع ذلك فهناك رؤى ربما أكثرها شهرة هي صورة المثقف التي تخيلها جوليان باندا، وهي صورة آسرة عند البعض؛ حيث يُفترض في المثقف الحقيقي أن يعرض نفسه للأخطار كالحرق والقتل والصلب والسجن والتعذيب من أجل أن يتحدث بشجاعة وبدون أي تردد ضد أي ظلم.

وهناك صورة المثقف التي تخيلها جرامشي، وهو تصور أكثر واقعية، فهناك نوعان من المثقفين «المثقف التقليدي، كالوعاظ والمذكرين والدعاة.. إلخ»، و«المثقف العضوي» المرتبط بطبقة أو مؤسسة لينظم مصالحها من أجل أن تسيطر، ثم رؤية إدوارد سعيد -إذا ما اقتصرت على دارسي المثقف المشهورين- الذي يتصور المثقف وهو يهشم الآراء النمطية التي تحد من الفكر الإنساني، صورة المثقف الذي يوضح رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأيًا لجمهور ما.

المثقف الذي لا يستطيع أحد أن يستوعبه، وكما نلاحظ فالمثقفون نادرون عند باندا، كثيرون عند جرامشي، بين هذا وذاك عند إدوارد سعيد، فضلا على ذلك يمكن أن نلحظ فكرة المقدّس خلف تصور باندا «المسيح مثلا»، وفكرة الدنيوي خلف تصور جرامشي «رجل الإعلان مثلا»، والتفكير النقدي خلف تصور إدوارد سعيد «إدوارد سعيد نفسه».

ليس في نيتي أن أبلور معنى للمثقف، فأنا أقل من أفعل ذلك، سواء في المعرفة أو في غيرها، ومع ذلك فهناك فكرة صغيرة تدور في ذهني أود أن أشرك القارئ فيها، أو بالأحرى أفكر فيها بصوت مسموع ليسمعني القارئ.

تبدأ هذه الفكرة الصغرى بأن المشكلات المعرفية، وربما مشكلات أخرى اجتماعية، لا تُفهم من مجرد رفض المثقف، بل بفهمها من منظور أوسع يبدأ بما قبل المعرفي والاجتماعي والثقافي والسياسي، يبدأ هذا المنظور الذي يرى أن إحدى مهمات المثقف تتعلق بأعمق من مجرد المعرفة ومن نشرها بين الناس، وأعمق من مجرد التنوير، ويبدو لي أن المهمة الأولى للمثقف تخص تشكيل الإنسان الداخلي، تلك التي يسميها فاتسلاف هافل «العيش في الحقيقة»، بحيث لا تنطفئ في داخله جذوة كرامته الإنسانية وحريته وحقوقه وواجباته كإنسان يعيش في مجتمع.

وأن رعاية هذا الداخل الإنساني ودعم الأفكار التقدمية لكي تبقى جذوتها مشتعلة داخل الإنسان، وهي مهمة المثقف العربي الراهنة لأن الأفكار التقدمية تكاد تكون غائبة عن الأجيال العربية الجديدة لعوامل شتى، أهما غرق هذه الأجيال في «العيش في الزيف»، الذي ينشره الاجتماعي والثقافي على وسائل التواصل الاجتماعي.

يتطلب «العيش في الحقيقة» بدلا من «العيش في الزيف» أن يكون التفكير النقدي أحد مهمات المثقف الأساسية، يتطلب هذا التفكير أن يحلل المثقف الثقافة التي تدفع حتى الأفراد الأكثر انضباطًا إلى أن يفقدوا التوازن، يترتب عليه أن يظلموا آخرين أو يحتقروهم، أو يعتبروهم أقل قيمة، لا أهمية لآرائهم، وغير قادرين على أن يقودوا أنفسهم، ولا أن يكوّنوا المعنى لحياتهم.

هناك مساحة لعمل المثقف، يساعدنا عبدالله البردوني على معرفتها «فظيع جهل ما يجري، وأفظع منه أن تدري»، هذه المسافة بين الجهل بما يجري، وبين معرفة ما يجري هي المساحة المتاحة أمام المثقف وتفكيره النقدي، وهي مساحة وعي المثقف الفردي من جهة، ومن جهة أخرى مساحة وعي المثقف بالموضوعات التي يناقشها ويتأملها، يقبع تفكير المثقف النقدي في هذه المساحة بين «ما يجري» وبين «أن تدري»، فالواجب لا يهاب قول الحقيقة، والصراحة واجبة على الإنسان حين تهبط الجلالة إلى الجهالة.

من الراجح أننا لن نفهم غياب مفاهيم معينة وأساسية للإنسان، من دون أن نفهم أصولها الثقافية والاجتماعية، وإذا ما فهم أحد أن القبح مثلا موجود في الفرد وحده فهو فهم غير دقيق، صحيح أن هناك من يشرح القبح على أساس خبرة الفرد وحده، وهو فيما أرى أنه منظور ضيق؛ لأن المدخل المناسب لدراسة القبح ليس دراسة الفرد القبيح نفسه، بل الوضع الثقافي والاجتماعي الذي يظهر فيه هذا النوع من القبيحين، القبح ليس أسلوبًا شخصيًا، بل أسلوب حياة الجماعة الاجتماعية، بدءًا من الأسرة مرورًا بالمدرسة والجامعة ومكان العمل، وإحدى أهم وظائف المثقف هي تحليل ثقافة الجماعة، وشخصية المثقف التاريخية محصلة علاقاته الحية والحيوية مع بيئته الاجتماعية التي يسعى إلى تغييرها، وهذه البيئة التي يسعى إلى تغييرها تمثل بالنسبة للمثقف نفسه ممارسة النقد الذاتي المستمر.

لذلك أصبحت فكرة التفكير والتعبير في العصر الحديث قفزة كبرى من قفزات الإنسان التاريخية، لكن أن يكون الإنسان حرًا في التفكير والتعبير لا يعني فقط غياب العائق لحرية التفكير والتعبير، ولا يعني أن يفكر الإنسان فيما يشاء، ويعبر عما يشاء، وإنما يعني أن هناك بابًا مفتوحًا أمام المثقف لنقد الذات أولا، ونقد البيئة الاجتماعية والثقافية ثانيًا، وهكذا يولد المثقف الحديث من هذه الفرصة، بحيث لا تنحصر شخصيته في كونه منتميًا إلى ثقافة، بل في نقد هذه الثقافة التي ينتمي إليها، وسيحرص المثقف على أن ينحي حبه لثقافته جانبًا، وسيحرص على مراقبته كي لا يتسلل من دون أن يشعر إلى ما يراه حقًا وصائبًا ومن مصلحة ثقافته ذاتها، المثقف محايد عاطفيًا، ويتبنى الأفكار التي تعلو فوق ما يفرضه التعصب، وإن فعل فقد استسلم بخزي لعواطفه الشخصية.

لم يعد المثقف الناطق باسم الآخرين الضعفاء كما كان في القرن الماضي؛ لأن الآخرين الذين نظر إليهم مثقف القرن الماضي على أنهم ضعفاء، هم في الحقيقة ليسوا ضعفاء، فهم يقاومون بما يملكون من وسائل، والذي يعرف مفهوم جورج سكوت «المقاومة بالحيلة» سيعرف أنه مفهوم يخص الضعفاء، ويستند إلى فكرة فوكو، التي مفادها أن المقاومة توجد حيث توجد القوة، وأن القوة موجودة في كل مكان، وأنها تُتداول ولا تتركز في يد أحد؛ لذلك يمكن تجاوز الفكرة التقليدية التي تذهب إلى أن الناس العاديين ضعفاء، فضلا عن ذلك فإن من يعرف مفهوم آصف بيات «فن الحضور» سيعرف أن ما من قوة مسيطرة تكون قوتها غير محدودة، فعلى الدوام هناك في التاريخ الإنساني شيء ما يقبع بعيدًا عن متناول القوة.

يمكن أن يسهم المثقف في التفكير في مسألة أخرى، وهي كيف يفكر الناس في مؤسساتهم الاجتماعية والثقافية وغيرها، وفي أهداف الناس الأساسية من الحياة، وفي مقاصدهم من العيش في مجتمع، مثلا ليس دقيقًا أن مؤسسات المجتمع التعليمية تتفضل على الناس حين تدرسهم وتعلمهم وترسلهم إلى الخارج ليتعلموا، لا تتصدق مؤسسات المجتمع التعليمية على المتعلمين، ولا تعطيهم ما يمكن أن تحرمهم منه، بل تعطيهم ما هو من حقوقهم الأساسية، فالمجتمع يسير بالحقوق والواجبات، فهناك حقوق على هذه المؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية هي خدمة الناس، وهناك واجبات على الناس تجاه هذه المؤسسات، إن الأمر فيما أرى ليس من باب خدمتني مؤسسة من مؤسسات الدولة التعليمية، لذلك فعلي أن أرد خدمتها، في رأيي أنها أعطت المواطن حقه في التعليم، ويترتب على ذلك أن يؤدي المواطن واجبه.

علاوة على ذلك يمكن للمثقف أن يهدئ من إحباط الناس وغضبهم على مؤسسات مجتمعهم بأن يبين عقلانية المؤسسات الاجتماعية والثقافية، وهو ما يتلاءم مع مقولة هيجل الذائعة «حين ننظر إلى العالم بعقلانية، فإنه يرد علينا بنظرة عقلانية»، بطبيعة الحال نحن نعرف كيف فهم التقدميون هذه العبارة، وكيف فهمها الرجعيون، ومع ذلك فالهدف من إيرادها هو أن يحاول المثقف أن يرسم حدود إمكان عيش المواطن في ظل ظروف ملائمة، ومن دون أن يتبع ذلك منّة، بل يتبع ذلك حقوق مواطن وواجباته.