في الزمانات كن الجارات يجلسن في الضحى، يتبادلن الأحاديث وهن يرضعن أطفالهن، وإن دخل عليهن صاحب المنزل بعد الاستئذان، أدنين عليهن من جلابيبهن وإحداهن ما زالت تُسكت جوع رضيعها، ومع الوقت يتبادلن الإرضاع، فيصبح كثير من أبناء الجيران إخوة. الأولاد يدخلون البيوت ويرون النساء اللاتي هن أمهاتهم أو أخواتهم أو ربما تربوا سويًا فكبروا وهم يعرفون أسماءهن. ومع تغير نمط الحياة، واختلاف تصاميم البيوت وإحكام إغلاق الأبواب، تباعدت الناس، اغتربت المشاعر، وأصبحت معرفة أسماء النساء عيبًا، وسؤالهن عن الحال فضيحة، بعدما كانوا يتبادلون السؤال ويبلغون السلام. المظاهر التي كانت عادية وطبيعية كثير من الناس أصبحوا يستنكرونها، لا أرى حرجًا في أن تُرضع الأم طفلها في أي مكان ومتى أرادت، تستطيع فعل ذلك تحت حجابها، خمارها، أو غطاء الرضاعة، لكن أجد أن البعض يبغض الفكرة ذاتها، أعني أن يعرف الناس أنها تُرضع! أليست مهمة أمومة! في القرى والمجتمعات البسيطة ترضع الأم طفلها بينما هي تزاول عملها بين الناس وبكامل حشمتها، الحشمة لا تتنافى مع الرضاعة الطبيعية في مختلف المجتمعات.

قصت سيدة ماليزية قصتها مع الرضاعة الطبيعية لإحدى الزميلات، وهي المختصة في الرضاعة الطبيعية، حينما منعها أحدهم من الإرضاع في أحد المراكز التجارية، فبعثت بالأمر إلى أمهات مرضعات مثلها، فتجمعنّ في اليوم التالي قرابة 200 امرأة، يرضعن أطفالهن في المركز التجاري، بعدها لم يعد هناك أي مكان تُمنع فيه الرضاعة الطبيعية.

لا تتوفر دائمًا غرف مخصصة للرضاعة الطبيعية، وهذا لا يعني حرمان الطفل منها.


في كل مؤتمر طبي تسمع تجارب الآخرين، تتعلم من خبراتهم، أكتب هذا المقال وأنا أنظر إلى «إيزيس» وهي تُرضع طفلها «حورس»، اللوجو الذي اختارته اللجنة المنظمة للمؤتمر العالمي الرابع للرضاعة الطبيعية IBFAN في القاهرة، حيث يُعقد ولأول مرةفي بلد عربي. وقع توقيت المؤتمر " من 12- 14 مارس" بين يومين مهمين (يوم المرأة) و(يوم الأم)، مؤتمر رائع، لم يكن لينجح ولا ليعقد في القاهرة لولا الجهود الجبارة والرغبة العارمة في احتضانه، التي بذلتها الاستشاري الدولي للرضاعة الدكتورة غادة السيد وزملائها من استشاريي الرضاعة الطبيعية في مصر، وهم الأكثر عددًا عربيًا، الذين وجدوا في حورس وأمه نموذجًا يحكيه التاريخ والنقوش والتماثيل، فاتخذوه شعارًا ونموذجًا. الملكة التي أرضعت طفلها، هي رمز للأم المثالية في الثقافة المصرية، احتفل بها قدماء المصريين قبل أن تبدأ الاحتفالات الحديثة بيوم الأم والذي جاءت به في 1908 (آنا جارفيس) تكريمًا لوالدتها.

المؤتمر طرح كثيرًا من الأمور، منها مسألة التبني بالاحتضان والإرضاع، وأكثر ما يحزن في الأمر قول إحدى الأمهات إنها استلمت طفلها مساء وداومت صباح اليوم التالي، حتى أنها لم تشبع من ملامح طفلها المحتضن بعد أعوام من الحرمان! فكان من التوصيات (لماذا لا تمنح الأم المحتضنة بالإرضاع إجازة أمومة حتى تنضج أمومتها بهدوء وسكينة)؟

كذلك طُرح موضوع (بنك الحليب البشري) في البلدان الإسلامية لشدة الاحتياج إليه، فهل سيرى النور قريبًا ضمن شروط معينة واستخدامات لدواع صحية.

الأمر الأكثر إلحاحًا والسؤال الأعظم أهمية هو (لماذا لا توجد لدينا حتى الآن جمعية سعودية للاستشاريين الدوليين في الرضاعة الطبيعية)، أعني جمعية علمية مهمتها بحثية بحتة، تحت مظلة الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، خاصة أن عدد الحاصلين على الشهادة فيها قارب المئة.

المؤتمر العالمي الذي استضافته مصر، لم يكن بذلك المستوى لولا وجود الجمعية المصرية لاستشاري الرضاعة الطبيعية والتي أنشئت منذ عام 2004، نريد أن نلحق بالركب، أن نحتضن المؤتمر الذي يعقد كل أربع سنوات، في دوراته القادمة، وكما أجهشت الدكتورة غادة بالبكاء فرحًا وهي تقول (أخيرًا الحلم تحقق ونحن اليوم نفتتح المؤتمر في مصر)، سنقولها يومًا إذا ما أتيحت لنا الفرص، وستكون (الجارة التي أرضعت نصف أبناء الحارة) هي شعارنا.