يُروى عَنْ عَائِشَةَ بنت أبي بكر، أنها قالت: «قال لبيد: ذهبَ ‌الَذين «يُعَاشُ» في أكنافِهِم، وبقِيتُ في خلف كجِلْدِ الأجْرَبِ»، ثم تقول: «فكيفَ لو أدرَكَ لبيدٌ مَن نحنُ بينَ ظهرَانَيْهِ»، وكان ابن أختها عروة بن الزبير يذكر كلامها، ثم يقول: «يرحم الله عائشة، فكيف لو أدركت زماننا هذا»، ثمّ قال الزُّهْرِيُّ: «رحِمَ اللَّهُ عروَةَ، فكيفَ لو أدركَ زماننا هذا؟»، ثمَّ قال الزُّبَيْدِيُّ: «رحِمَ اللَّهُ الزُّهْرِيَّ، فكيف لو أدرَكَ زماننا هذا؟»... وتستمر السلسلة إلى أجيالٍ متوالية، وثِّقَت في كتبِ التراث، يُنظر مثلًا «تهذيب الآثار للطبري».

وكأنَّ كلَّ قارئٍ لكلام لبيد، واستشهاد عائشة له، يستشعر بأنَّ الزمانَ السابق عليه أفضلُ من زمانه، من جهة «العيش» لا «الحياة»، وكأنه أيضًا يُفرِقُ -بالضرورة- بين الحياةِ والعيش؛ إذ بينهما مسافةٌ، يمكن لنا أن نُدركها من خلالِ بعضِ النصوص، وهذا واحد منها، نحن نقول: حياةَ الوردة، وحياةَ الأسد... إلخ، لكن لا نقول: معيشة الوردة، والأسد.

ربما كنّا نعقدُ صلةً بينِ العيشِ والوعي بالسعادةِ مثلًا، أو العيشِ والحياة الكريمة، لهذا قالت عائشةُ ما قالت، وربما كانت تستحضر الآية القرآنية: «فإنَّ له معيشةً ضنكا»، لكن في المقابل ستجد الآيةَ الأخرى التي اختارت لفظ «الحياة» لا «العيش»، وهي: «فلنحيينه حياة طيبة».

أرى أنَّ فهمَ عائشة -وبالمناسبة اسمها من العيش- يستعيدُ معانٍ قبل الإسلام، لأنَّ الآيتين المذكورتين جعلت صفةَ الحياة للمؤمنِ العاملِ، وصفةَ العيشِ للمُعرض عن العملِ الديني، وهذا فرق يستحقُّ التأمل، لكنَّ قولَ لبيدٍ يجعلنا نفكر في أنَّ ما خرجَ عن كونه «عيشًا» هو حياة تُشبه حياةَ الأسد والوردة، ألهذا انتقت عائشةُ بيتَ لبيد، وهو ما قبل إسلامي، لتبحث عن معنى آخر؟.

يقول ضياء الدين ابن الأثير: «سافرتُ إلى مصرَ ورأيتُ الناسَ يُشْغَلون بشعر المتنبي، فسألتُ القاضي الفاضل عن ذلك فقال: إنَّ أبا الطيب ينطقُ عن خواطر الناس».

هذه الرواية تُمكِّننا من فهمِ إعجابِ عائشة ببيتِ لبيد، لقد نطقَ لبيدُ عن خاطر عائشة، ونحن بدورنا لابدَّ أن نستحضر مفهوم «السلسلة»، التي بدأت بعائشة وانتهت إلى أجيال بعيدة عنها، عائشة تنصُّ على «الإنسان» لا الزمان، فهي الوحيدة في السلسلة التي قالت: «مَن نحن بين ظهرانيه»، ربما تستحضرُ معنى مدنيًّا، وموطن عائشة «الفعلي» منسوب لأرضٍ سُميت لاحقًا «المدينة»، وقد أمَّت عائشةُ جماعتَها المدنيّة في معركةِ الجمل.

فإذا قُلنا إنَّ الإنسانَ مدنيٌّ في تفكيره، هل هذا يجعلنا نفهم العيشَ بوصفهِ قيدًا وإطارًا؟ أو لنقل مذهبًا وطريقة؟ أما الحياةُ فهي بلا إطار، «يمكن من خلال هذا القول يُنظر لتاريخ البادية بين العيش والحياة».

إذا قَررنا أنَّ العيشَ مذهبٌ، سنفهم غضبَ عائشة، واستئناسها بقول لبيد، ومن هنا نفهم أنَّ استشهاد عائشة بقول لبيد كان حقيقيًا ومتسقًا مع الواقع «المعاش»، وأما من جاء في السلسلة فهو مزيف، وبارد، ويمكن لي أن أقول: إنهم لم يفهموا غضبَ عائشة الواقعي، فحوَّلوه إلى مفهوم الزمان المثالي المتّسق مع المنظور الإسلامي العام المتمثل في قَولِ: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم...إلخ».

من هذه النقطة سأرحلُ إلى معنى يلتقي به بصورةٍ ما، في زمان ومكان آخرين، عند الصديقين الحميمين؛ الفيزيائي آينشتاين، والرياضي هيلبرت، ويتضح مقصدي بسؤال: هل هما مذهبان تطوّقت أفكارُنا ومعيشتُنا بهما؟ أم شخصان نتحدث عنهما بوصفهما مؤثريْن في حقليْهما العلمي وحسب؟

سأدع الإجابةَ للمخيال المُحلّق، لكن أشير إلى أنّي قرأتُ -في يومٍ ما- خبرًا عن وفاةِ عالمِ الرياضيات الكبير دافيد هيلبرت، في منتصفِ الحرب العالمية الثانية، وهذا الخبر تضمن غضبًا ولومًا -من قِبل طلاب هذا العالم- على ما جرى...؛ حيث أقيمت طقوسُ عزائِه في بيتٍ صغيرٍ، لا يليق بقامته -حسب ما يروي الخبر- وسطَ أصدقاءٍ يُعدَّون على أصابعِ اليدين، كما لم يُودّعه عند قبره إلا أرملته، وابنه المريض، وفي المقابل نتذكّر أنَّ آينشتاين قال: «إنني أفضل أن يُنثر رمادي في غابةٍ، ويُترك دون نصب تذكاري»، وبناءً على غضب طلاب هيلبرت؛ فإنه يمكن أن يقال: هيلبرت ماتَ أيضًا، وذُرَّ رماده في غابة.

لكن الذي يجمع بين رماد الاثنين، أنَّ تحتهما وميض جمر، كما قال نصر بن سيّار: «أرى تحت الرماد وميضَ جمرٍ ويوشك أن يكون لها ضرام»، لهذا فالسؤالُ الذي يختبئ خلفَ حكاية هذين الشخصين: هل ماتا فعلا؟ أم أنَّ ثمة واقعًا يختبئ خلفَ المنجزات المتوالية لرياضيات هيلبرت وما بعده، وفيزياء آينشتاين وما بعده؟ ومن ثم نستعيد سؤالَ العيش والحياة، فتكون حياتهما هي معنى العيش للآخرين، وأما حياة الآخرين فهي موت، إذ هل يُعاش بهما كأفقِ انطلاق يُقيد الحياة؟ وما معنى الخروج من نمط عيشٍ كهذا؟

التفاتة:

قيل: «الفلسفة هي أن تتعلَّم كيف تموت».. إذن ربما في إقدامِ عائشة بنت أبي بكر إلى الموتِ في معركة الجمل نوع من الفلسفة اليومية المعيشية؛ إذ هي عقدت صلةً بين طريقةِ الحياة، وشكلِ موتها.

التفاتة عن الالتفاتة:

اجتمع الصديقان آينشتاين وهيلبرت في عام 1915م، فكانت جُلّ نقاشاتهما عن الرياضيات والفيزياء من جهة علمية، ثم عن السلام العالمي من جهة «معيشيّة».