إن حساد المتنبي قد بالغوا في هجائه وأكثروا من ذكر عيوبه. أما هو، فلم يكن يبالي بهم ولا يكترث لهم. بل كان يعرض عنهم ولم يتصدَ إلى هجاء أحد منهم، وإنما كان يذكرهم عرضاً في تضاعيف قصائده التي يقولها في المدح أو في غيره من فنون الشعر. لأن المتنبي لم يكن من غرضه مغالبة هؤلاء بعلو المنزلة في الشعر. فإن ذلك حاصل له من دون أن يغالبهم بالهجاء بل كان غرضه أسمى من ذلك وأعلى. ولذا كان يعرض عنهم ولا يذكرهم إلا عرضا في قصائده. ولما قدم المتنبي بغداد تناوله شعراؤها بالهجاء حتى هجاه زهاء أربعين شاعرا، كل واحد منهم كان من سخف العقل وضعف النفس بحيث يضيق ذرعاً بالحياة إذا رأى على وجه الأرض أشعر منه.

أما المتنبي فكان بنفسه الكبيرة وحصاته الرزينة يرى هؤلاء أقل من أن ينازلهم في ميدان المهاجاة. ولذا لم يروا منه سوى الصفح والإعراض، حتى لقد لقبه أحدهم (ابن الحجاج على ما أتذكر )، وهو مار ببعض طرقات بغداد، وكان قد أعد له قصيدة يهجوه بها، فوقفه عن المضي في طريقه وأخذ بيده وجعل ينشده القصيدة والمتنبي مطرق كالمستمع إليه، حتى إذا تم إنشاده سحب المتنبي يـده وانطلق ذاهباً في طريقه ولم ينبس له ببنت شفة! لا ريب أن شاعرية المتنبي من نوادر الزمان. ولو عاشت في زماننا لكانت من عجائبه أيضاً.

وإذا أردت أن تعرف شاعرية المتنبي وأن تلمس ما وراءها من نفس كبيرة، فانظر في قصائده الخاصة التي قالها في أغراضه النفسية، فإنها أدل على شاعريته من قصائده الأخرى التي قالها في المدح.

وإذا كنا نرى في شاعريته بعض التناقض فإنما لحقته من زمانها بحكم الضرورة لأن الإنسان كما قلنا آنفاً لا يكون إلا ابن زمانه رغم أنفه، فكل من أراد أن يقايس بين المتنبي وبين غيره من الشعراء فعليه أن ينظر إلى زمانهما قبل كل شيء وإلا كان مخطئاً في قياسه وجائراً في حكمه لا محالة.

ثم إن المتنبي إذا كان «مداحاً» كما قيل، فإن مدحه لم يكن مدحاً بحتاً كما يفعل غيره من الشعراء، بل كان خلافاً لما عليه السيرة من شعراء عصره، إذا قال المدح جاء في أثنائه بشتى الفنون من الشعر كوصف الطبيعة ووصف الحروب. وما حكم المتنبي الرائعة وأمثاله السائرة إلا مما جاء في أثناء ما قاله في المدح. ولا حاجة إلى إيراد الشواهد على ذلك.

وهل كان وصفه للطبيعة في شعب بوان إلا من قصيدته التي مدح بها عضد الدولة، أو هل كان وصفه للأسد الذي أبدع فيه كل الإبداع إلا من قصيدة مدح بها بدر بن عمار. على أن المدح في حد ذاته ليس بعيب بل هو فن من فنون الشعر وإنما يعاب إذا اتخذه قائله وسيلة للاستجداء، ولم يكن المتنبي كذلك بل كان كما قلنا فيما تقدم يرمي بالمدح إلى ما هو أعلى وأغلى من قبض الدرهم والدينار.

إن المتنبي شاعر فنان. فقد يأتيك بأفانين من الشعر في موقف واحد، وإن أردت شاهداً على ذلك فانظر إلى قصيدته المسهبة التي قال في مطلعها:

لهوى النفوس سريرة لا تعلم

عرضا نظرت وخلت أني أسلم

1936*

*أكاديمي وشاعر عراقي «1875 - 1945»