كتب أحد الكبار من كتاب العرب: «يقول إن قاسم أمين قد غير المجتمع المصري بكتابه المشهور عن المرأة لأنه هو الذي جعلها تفك الظلم بالسحر الرهيب...» ولكن هل صحيح هذا؟ هل صحيح أن التغيرات تحدث بسبب واحد مباشر - وهل صحيح أن كتابا ما قد يغير المجتمع؟، وإذا كان هذا صحيحا، أفليس من المستطاع حينذ أن تغير كل خصائص المجتمعات وتغير أخلاق الناس بعدة كتب يؤلفها عدة كتاب حتى ولو كانوا كتابا مستعارين - وهل الأمر بهذه السهولة؟.

إننا لا نستطيع أن نصنع أخلاق المجتمع بكتاب، كذلك لا نستطيع تغييرها بكتاب.

وإذا كان من غير الممكن أن نجعل الأحداث الطبيعية تقع أو تتغير بأن نطلب إليها ذلك، فكذلك لا يمكن أن نجعل أوضاع المجتمع تتغير بمثل هذا الطلب. وبقدر ما يستحيل أن تحدث ظاهرة كونية بسبب واحد مباشر يستحيل أيضا حدوث تغييرات اجتماعية بسبب واحد مباشر.. وهل يصح القول بالسبب الواحد المباشر؟

إن سلوك المجتمع كالحادث الطبيعي: كلاهما تعبير نهائي لتوفر حشود من الأسباب، وجميع التغيرات في المجتمع مركبة ليس فيها بسيط، والإيمان بسبب واحد إنكار للأسباب.

وما حدث للمرأة المصرية بل وللمرأة العربية في كل أوطان العرب لم يكن بد من حدوثه حتى ولو لم يوجد كتاب قاسم أمين بل ولو لم يوجد قاسم أمين نفسه.

لقد حدثت تغيرات كثيرة في المجتمع المصري والعربي وفي الحياة المصرية والحياة العربية لأن ظروفا ما جديدة قد حدثت، لا لأن كتابا أو كتبا قد ألفت ونشرت. وبالأسباب التي تغيرت بها الحياة وأساليبها تغير سلوك المرأة أيضا. والمرأة التي تحررت ليست هي المرأة التي قرأت كتاب قاسم أمین بل امرأة أخرى وجدت نفسها أمام ظروف لا بد أن تصنع منها كائنا جديدا.

لقد خرج كتاب «تحرير المراة» فلم تتحرر المرأة لأن الظروف لم تكن قد تهيأت بعد. ثم تحررت بعد أن نسي الكتاب وأصبح ذكرى يتحدث عنها المؤرخون في بعض السطور مما يكتبون أو فوق مكاتبه، حينما نشرت أفکار قاسم أمين لم يكن من الممكن أن تتأثر بها المرأة لأنه لم يكن ممكنا أن تقرأها أو تفهمها لأنها لم تكن فاهمة ولا قارئة، ولم يكن من الممكن أن يحملها مجتمعها على التأثر بها، أو يحملها أقاربها لأنهم لم يكونوا مؤمنين بتلك الأفكار أو على الأقل لم يكونوا مبشرين بها في نسائهم بل لم يكونوا قارئين لها.

والمرأة المصرية والعربية حتى اليوم تصر على رفض الاستجابة لدعوات كثيرة متواصلة تحثها على التخلي عن أخطائها السلوكية الكثيرة: فهي تقيم الحفلات للزار وتصدق الدجالين وتعطيهم مالها وإيمانها، وتصنع كل ما کانت جداتها يصنعنه في شؤون الزواج وتربية الأولاد وتخويفهم من الحياة ومن الأشباح والظلام، وفي معاملة الأزواج والآخرين وتفسيرهم، وتعتقد مثل جداتها وتشعر بمشاعرهن الرديئة المتخلفة، ولم تستطع تلك الدعوات والتحذيرات التي كان بعضها رسميا أن تغير أفكارها أو عواطفها أو سلوكها، لأن الأوضاع التي تحياها لا تكفي لحدوث مثل هذا التغيير، لا لأنه لم يوجد قاسم أمين يدعوها إلى ذلك: ولقد دعا كتاب: تحرير المرأة إلى أشياء كثيرة لم تأخذ بها المرأة أو تتأثر حتى اليوم لأنها في الحقيقة لا تأخذ حياتها المتحررة عن هذا الكتاب، بل تأخذها عن الحياة نفسها.

من المحتوم أن قاسم أمين لو كان ضد المرأة لوضع كتابا يقاوم حريتها بدل كتابه في حريتها لكان الناتج الاجتماعي هو هو بلا تغيير. فالمرأة متحررة أو سافرة أو عاملة مع رجلها في الريف وفي البادية وفي بعض البيئات المتأخرة جدا دون أن تشعر بوجود قاسم أمین أو بوجود غیره من دعاة التحرير، الناس لا يفعلون الشيء لأنهم قد دعوا إليه أو برر لهم فعله، ولكنهم يفعلونه حينما يجدون أنفسهم ملزمين بفعله، والإنسان لا يفعل إلا مشاعره - يفعل مشاعره لا فكره - والفكر قد يكون معزولا عزلا تاما عن تصرفاتنا.

إن أقواما كثيرين يرون حرية المرأة جريمة كبرى ومع هذا يباركون نساءهم إذا فعلن هذه الجريمة بل ويغضبون ويحسون بالدونية والامتعاض لو لم يفعلنها، والذين يغيرون أفكارهم في هذه القضية يغيرونها لأنهم وجدوا أنهم لا بد أن يغيروا سلوكهم. فالاحتياج إلى السلوك الجديد هو الذي يصنع الاحتياج إلى التفكير الجديد.

وكذلك يؤمن آخرون بحرية المرأة وقد يدعون إليها ولكنهم لا يستطيعون أن يحولوا إيمانهم إلى سلوك لأن الأوضاع التي يعيشون ليست الأوضاع التي كتب فيها قاسم، والمجتمع يملك قدرة على التحرك لا على التفكير.

ماذا لو أن رجلا من أهل اليمن ألف كتابا يدعو فيه إلى ما دعا إليه قاسم أمين تم نشره في بلده في الوقت الذي نشر فيه قاسم أمين كتابه، هل يمكن القول بأنه لو حدث مثل هذا لكانت المرأة اليمنية قد بلغت الطور الذي بلغته المرأة المصرية مع بقاء ظروف اليمن كلها في مكانها؟

لقد صدر کتاب قاسم أمين في مصر وقرأه قوم في مصر وفي سوريا وفي العراق وفي البلدان العربية الأخرى فهل جاءت النتيجة واحدة، وهل ألحقت المرأة موقفا واحدا في كل هذه البلدان؟

لا.. إن الظروف والضرورات هي التي تصبح رکنا وتصنع الاتجاهات الفكرية والروحية، والضرورة هي التي خلقت دعوة قاسم أمين، دعوته هي التي خلفت تلك الضرورة، ودعوته وحرية المرأة كلتاهما مظهر الاحتياج، وليست الاستجابة مظهرا لهما، والضرورة التي صنعت سلوك المرأة هي نفس الضرورة التي صنعت دعوة قاسم أمين.

1957*

*كاتب سعوي «1907 - 1996»