حظيت يومًا بفرصة لمشاهدة رقصة أزهار الخزامى على إيقاعات الصحراء اللانهائية، مع شعاع الغروب الأخير الذي يطعم الأفق بحمرة باردة، ويا لها من لوحة تأسر الروح، يغمرك شعور بأن ثمة مواعيد سرية يتنزل بها الربيع على قلب الصحراء فيمنحها وقتًا مستقطعًا لاستعادة شغف الغواية، ثم ها هي ترتدي ثوبها الأرجواني المخملي، وتحمل ملاحظاتها العطرية الباذخة على ملامح الليل وغلالات الندى.

لحكايتنا مع نباتات الصحراء عمومًا، والخزامى على وجه الخصوص تفاصيل عميقة في الذاكرة مختلطة بقصص الأجداد الذين كان للخزامى حضور كبير في مواسمهم ومنتجاتهم ولغتهم وقصائدهم، وممتد دون انقطاع حتى يوم الناس هذا.. هنا يصور الشاعر محمد جبر الحربي صحراءه حين ينمو الخزامى في منابتها فتتهيأ وطنًا من حب وشعر وتاريخ:

إِنْ أَثْـمَـرَ الحُبُّ نَـهْرًا قُلْتُ فَـيْضُهُـمُو

أوْ أمْطَرَ القْلْبُ شِعْرًا صِحْتُ ذَا وَطَنِي

وَأَنْــتِ أَنْــتِ بلادُ الْــمَـجْـدِ شـَاعِـلَـةً

فُـضُـولُهَـا فِي ضـَمِيْرِي الْحُرِّ تُشعِلُنِي

لَـوْنُ الـخـُزَامَـى تـَنـَامَى فِـي مَـنَـابـِـتِهَـا

وَالْــبُـرْعُـمُ الــغـضُّ صَـدَّاحٌ عَلـَى فَنَنِ

لا أبالغ إن قلت إنك لن تجد عصرًا من عصور الشعر العربي خلا من ذكر الخزامى في إنتاج شعرائه قديمًا وحديثًا، والخزامى نبات بري ينمو في أجزاء واسعة من العالم، تتعدد أنواعه ودرجاته اللونية، وتعد الفصيلة المسننة الأكثر نموًا في الجزيرة العربية.

عرفت هذه الزهرة بتأثيرها المهدئ والخصائص العلاجية لزيوتها العطرية، فضلا عن رائحتها الفواحة المبهجة، فكانت تستخدم منذ القدم في الغذاء والعلاج والتجميل والتعطير، كما تعد الخزامى حتى اليوم مكونًا هامًا يدخل بكثرة في صناعة منتجات العناية والجمال والعطور.

غير إنني أود التركيز هنا على الرمزية الثقافية لزهرة الخزامى، وبالطبع فإن هذا الجانب لم يغب عن برامج وزارة الثقافة السعودية التي قدمت مبادرة بالتعاون مع المراسم الملكية لاعتماد تغيير السجاد الملكي من اللون التقليدي إلى لون الخزامى ذي الدلالة الثقافية، ولا شك بأنه كان تغييرًا موفقًا لافتًا ومميزًا جدًا، إلا أن مبادرات العناية بزهرة الخزامى كرمز ثقافي توقفت هنا ولم تتكرر.

في رأيي أن زهرة الخزامى تستحق بجدارة أن تعتمد كأيقونة ثقافية وطنية، ويكفي أن ترى أفواج محبي التخييم وحديثهم عن هذه الزهرة لتشعر أنك أمام حالة ثقافية ربيعية عنوانها الخزامى، يمكنها أن تصنف بكل سهولة ضمن تراثنا غير المادي، فتعزز هويتنا وقوتنا الناعمة وتتموضع في برامجنا البيئية ومشاريعنا الاقتصادية.

يمكننا العمل أيضا على الاحتفاء بموسم الخزامى وتقديم دراسات وشروحات حول أنواعها التي تنمو في السعودية، وربما إن أمكن استزراعها على نطاق واسع وتحويلها لمنتج مميز ذا عائد اقتصادي، وتقديمها للمشاركة في مهرجانات وفعاليات دولية ومحلية. اعتماد أنواع من الأزهار كرموز وشعارات ثقافية، أمر شائع لدى كثير من شعوب العالم، فنجد «الورد» الزهرة الوطنية في أمريكا، و«الكرز الياباني» في اليابان، و«الأوركيد» في سنغافورة، و«التوليب» في تركيا، وعدد من دول أوروبا وغيرها الكثير.

أرجو أن نرى تعاونًا بين كل من وزارة الثقافة ووزارة البيئة والمياه والزراعة، يساعدنا على اصطحاب الخزامى معنا خلال رحلتنا الثقافية لتكون الرحلة أكثر متعة وثراء وإنتاجًا.