يعتقد كثير من قراء الفلسفة والمهتمين بأفكار الفلاسفة، أن الفلسفة تعيش في برج عاجي وقراءتها محصورة على نخبة المجتمع من مثقفين وأدباء، لأنها -حسب اعتقادهم- صعبة الفهم،غارقة في التجريد وبعيدة عن هموم الحياة اليومية ونشاطات المجتمع الروتينية. فهل الفلسفة فعلا نخبوية وعسيرة على الفهم؟ ولماذا يعجز القارئ عن فهم كتبها أو يجد صعوبة في فهمها وبالتالي ينفر منها؟ صعوبة الفلسفة لا يعني في واقع الأمر عمق أفكارها أو عقلانيتها المفرطة، أو لأنها مجال لا تخوضه إلا النخبة في أي مجتمع.

صعوبة فهم الفلسفة وغموض أفكار الفلاسفة وبعدها عن واقع الحياة، سببه - ببساطة - أننا نقرؤها بعيدا عن سياقاتها الدينية، بعد أن نفرغها من محتواها الديني والعقدي، ونجرد الفلاسفة من نزعاتهم ودوافعهم الدينية. قراءة الفلسفة دون معرفة السياق الثقافي والدافع الديني، تسبب في خلق فجوة ونقص في فهمها، وجعلها - أحيانا- مستحيلة الفهم حتى على المختصين في الفلسفة. دعونا نقدم (هيجل)«1770 - 1831» و(نيتشه) «1844 - 1900»وهما من أبرز رموز الفلسفة الألمانية. تتصف أفكارهما غالبا بالصعوبة والغموض وأحيانا بالإبهام والتعتيم. وتقدم أفكارهما في الأوساط الثقافية والأدبية بوصفهما فلاسفة تنوير وعقلانية وأصحاب مشاريع فكرية عظيمة ومؤثرة في مسيرة الفكر الإنساني.

طبعا من المغامرة القول إنهما يفكران بطريقة بدائية، وإن أفكارهما في حقيقة الأمر ظلامية ورجعية، فالمكانة الفكرية الرفيعة التي يحظيان بها، أو الفكرة النمطية السائدة بأنهما أصحاب أفكار ثورية عظيمة، تضفي عليهما هالة من القداسة تجعل من الصعب وصفهما بالبدائية والظلامية أو الرجعية الفكرية. أين تكمن البدائية في فلسفة نيتشه وهيجل؟

وكي تسهل الإجابة عن هذا السؤال العريض، لزام علينا أولا ربط فلسفتيهما بسياقاتهما الدينية والثقافية التي أنتجتاهما. ويمكن استخلاص بعض الأفكار من كتابي «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه، و«فينومينولوجيا الروح» لهيجل، والتي تتمحور حول عقيدة دينية تعود بجذورها التاريخية للعصر اليوناني القديم، وهي عقيدة «عبادة الأبطال». فالبطل والبطولة في المفهوم المسيحي واليوناني يعود لعقيدة الخلاص الدينية. تلك العقيدة الشائعة في العصور البدائية التي تعظم البطل الذي غالبا ما يكون شبه أسطوري أو إلها أسطوريا.

البطل حسب هذه العقيدة الدينية، يضع نفسه محل الآلهة، أو أن الآلهة تحل فيه وترتبط بشخصه وتخلق الأحداث بواسطته. فقد كان هيجل يؤمن بأن الأبطال تنتخبهم الروح للقيام بأمر الروح وخلق النظام وتأسيس الحياة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى إقامة الروح والحق والعدالة، فكثير ما يردد هيجل مفاهيم كالمطلق وروح العالم، والتاريخ الكوني محكوم بالمطلق الذي يتحقق ديالكتيكيا وتدريجيا في مآسي التاريخ، والأبطال هم الأدوات المتعاقبة لتحقيق المطلق.

ففي مؤلفاته يفسر هيجل ويحلل كيفية ارتباط الأفراد بالتاريخ، والبطل هنا يمثل أداة للمطلق أو ضحية الضرورة التاريخية. لا ينظر هيجل للتاريخ باعتباره مؤرخا، بل ينظر له نظرة المتأمل الديني، نظرة دينية محضة، فالمحرك الديالكتيكي للتاريخ هو الذي يدفع البطل إلى العمل، إنه بمعنى ما (عبد خاضع للتاريخ).

كان هيجل معجبا بشخصية نابليون، وكان نابليون يجسد الفلسفة الهيجلية للتاريخ، أداة المطلق على المسرح العالمي، البطل الذي ينفذ إرادة التاريخ ويجوز له ما لا يجوز لغيره، فهو ينتهك القوانين والحقوق ويمكن له أن يدوس العديد من الزهور البريئة -حسب تعبير هيجل- ويدمر كل شيء بطريقه، ولكن تصرفه هنا مبرر لأنه أثناء السعي وراء هدفه يساهم في تحقيق المطلق وبذلك يحقق العدالة الإلهية. إن نابليون يجسد روح العالم تلك العقيدة الدينية التي آمن بها هيجل ونيتشه، وتعود بجذورها التاريخية لعصور ما قبل الميلاد. عقيدة دينية بدائية بررت لكثير من الأعمال الوحشية والعنصرية في القرن العشرين وما قبله.