ويعود رمضان، ليجمعنا كأسر صغيرة، وعوائل كبيرة على مائدة إفطار أو سحور عامرة ببركات الشهر وروحانيته، وبتلك القيم الأخلاقية العالية التي كان فيها رمضان الأمس فرصة سنوية ذهبية لجيل سابق تعزز فيه جهود الأهل والمدرسة والمجتمع لزرع القيم العالية والهوية الإسلامية بفضائلها السمحة، وكذلك تأصيل الشخصية المجتمعية الراقية. وطبعا عندما نتحدث عن رمضان الأمس وكذلك اليوم فنحن بلا شك نضع مائدة المحتوى التلفزيوني كوجبة ترفيهية شهية وأساسية موازية لمائدة رمضان العامرة بأطايب الطعام.

بالأمس كانت البرامج الدينية، وبرامج المسابقات، والمسلسلات، ذات محتوى يعزز أساليب التربية الأسرية والتعليمية والمجتمعية، فالمسلسلات كانت رسائل تربط الماضي بالحاضر بمرونة ومهارة تستطيع أن تتحرك من خلالها بين ثقافات الأجيال بيسر وسهولة مع المحافظة على عنصر التشويق، وربما كان مسلسل (إلى أبي وأمي مع التحية) خير مثال على رقي الدراما الخليجية في ذلك الوقت وقوة تأثيرها مع احتفاظها بنظافة محتواها الفكري، واللفظي، وعلى البصمة الخليجية بهويتها المميزة، وعلى مناقشتها لقضايا مجتمعية خليجية من واقع الخليج فعلا، دون خيالات كثير منها لا يمت لنا بصلة، بل إنه قد يكون بذرة لنمو مشكلات اجتماعية مستقبلية محورها العنف والجنس نحن في غنى عنها.

أما برامج المسابقات فقد كانت جاذبة بشكل يفوق بكثير ما هو مطروح الآن، فرغم أنها كانت برامج دسمة الثقافة غنية المعرفة والعلم، فصيحة اللغة، ثرية المحتوى، إلا أنها استطاعت أن تكون فيما مضى مناهج غير رسمية رديفة للمناهج الرسمية، خلقت أجيالا سابقة غزيرة المعرفة والثقافة محبة للبحث والاطلاع، رغم عدم توفر «العم جوجل في ذلك الوقت».

ولو تحدثنا عن البرامج الدينية ففعلا نحن بأمس الحاجة إليها كثمرة رمضانية خفيفة مفيدة نبدأ بها إفطارنا التلفزيوني، لنشبع حاجة الأسرة وخاصة الأجيال الجديدة إلى الثقافة الدينية النقية من شوائب التطرف، وثقل الغلو، فما نحتاجه هو برامج دينية يقدمها شيوخ شباب وكبار بفكر وسطي معتدل يحبب الناس بالحياة والاستمتاع بواسع الإباحة من الله فيها، مع عدم تجاوز المحرمات التي مهما حُصرت فلن تكون بسعة المباح، فما نحتاجه هو برامج دينية بعصرنة جاذبة تواكب متغيرات العصر؛ مما يساهم في تحديث ثقافتنا الدينية صغارا وكبارا، وتنقيها مما علق بها من شوائب الغلو، وتعزز لدينا وخاصة الأجيال الجديدة الضمير العقائدي الصحيح الذي يقف صامدا أمام كل مغريات جنون الانفلات الأخلاقي الذي أصبح في بعض الدول مشرعا، وكذلك تحديات العصر التي لا تناسب عقيدتنا ولا مجتمعاتنا، والتي ترفضها دولتنا -حفظها الله- ويرفضها الفكر السوي، والعرف والأخلاق والقيم، برامج تجعل الفرد قيد الحضور في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعاصر بمرونة فكرية مواكبة للعصر منفتحة على الثقافات المختلفة، ولكن بقوة عقائدية عصية على أي انجراف أمام المغريات، تحمي الشخص بعد الله من الانقلاب على دينه أو وطنه أو مجتمعة بالأذى أو الخيانة.

صدقا..سئمنا في رمضان اليوم من مسلسلات لا تمت لنا بصلة، سطحية الفكرة، بذيئة اللفظ والتلميحات، مسلسلات تدور حول العنف والجنس، تهدم لا تبني، وبرامج مسابقات بطرح سطحي جدا الهدف منه من قبل طرفي التفاعل هو الكسب المادي على حساب غنى المحتوى.

وهنا يتبادر إلى ذهني سؤال: إن كنا نستطيع أن ننتج مسلسلات ذات عمق وقوة في كل شيء كمسلسل العاصوف مثلا، الذي وضع حقباً زمنية مختلفة من واقع مجتمعنا أمام المشاهد بموضوعية وصدق وتمكن، أو كمسلسل طاش الذي أسعدتنا عودته بعد طول غياب لأنه بحق، مسلسل جدير بالمتابعة والإشادة، فمنذ بدأ وهو يطرح قضايانا المجتمعية السعودية بصدق وجرأة وموضوعية وعمق مغلف بغلاف كوميدي محبب عاش معنا لسنوات طويلة، وأثر وتأثر بنا، فرغم كل الهجوم عليه لسنوات كثيرة وما صاحب أبطاله من تكفير وسب وقذف إلا أن كثيرا مما انتقده هذا المسلسل أصبح في واقعنا الحالى بفضل الله ثم قيادتنا -حفظها الله- من الماضي الذي تصحح.

خلاصة القول.

رمضان له حرمة يجب أن تُراعى في ماراثون المسلسلات والبرامج الرمضانية، رمضان شهر الروحانية التي يجب ألا تٌجرح بالخارج من القول والفعل الذي تزخر به مائدة رمضان التلفزيونية،

أضف إلى ذلك أن المحتوى الذي يطل علينا من خلال الشاشة الرمضانية له أثر كبير في تعزيز القيم والأهداف؛ لذلك يجب أن يكون تركيزنا كيف يصب هذا المحتوى في مصلحة الوطن من خلال تعزيز أهدافه وتحقيق رؤيته، وكيف يكون هذا المحتوى نظيفا خاليا من الإسفاف مما يجعله ذا طرح يرتقي بالمجتمع ويعالج مشاكله لا يزيدها.