(1)

حدثنا غراب بن سنان أن أبا حيان الأندلسي-الذي ولد في غرناطة، وتوفي في مصر-قال: إن لفظة (غُراب) يمكن أن تكون مأخوذة من الاغتراب. ثم حدثنا غراب أن السبب يكمن في عمل الغراب، وهو البحث في الأرض، والكتابة على التراب. فهل الغراب من الغربة، أم الغربة من الغراب؟!

(2)

سألت غُرابا: بم أسمي هذه المقالة؟ قال: سَمّها (غرائب الاغتراب). قلت: ألم يُسَمِّ شهاب الدين الألوسي رحلته بهذا الاسم؟ قال: إن الألوسي كتب ما كتب بعد أن عاد من الاغتراب، كما يقول. ولكن هل يمكن أن يعود الغريب؟ أم هي رحلة بلا عودة؟

(3)

وحدثنا قائلًا: الأسماء لها أهمية، لأسباب متعددة. فثمة من يؤمن بأن الأسماء -كما الواقع والطبائع- لا ثبات لها؛ فقد يتغير اسم مقالتك في مكان وزمان آخرين. وتذكرت -على ذكر يؤمن- عنوان أو اسم الحوار الذي جمع رجل دين -وهو الكاردينال مارتيني-برجل سيميوطيقي علماني-وهو أمبرتو إيكو-وهو: (بماذا يؤمن من لا يؤمن؟). أليس هذا من غرائب الاغتراب؟.

(4)

وحدثنا قائلًا: اخترت لك هذا العنوان؛ لأجمع المعنى في جذر يدور حول الغُربة التي تبحث في الأرض وتكتب على التراب. هل نتذكر الآن صوت محمود درويش -كاتب الأرض والتراب- حين قال: «احملوا أسماءكم وانصرفوا»؟ كأن صوتا يقول: «ليس في فلسطين شيء من تاريخ صهيون إلا الأسماء، وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه إلا الحاذق البصير، وإلا فالذوات غير الذوات». وهنا أقول أنا غُراب: ليس بين مقالاتك إلا الأسماء، وأما المسميات فبينها تفاوت، لا يدركها إلا قراء المُخبّآت.

(5)

وحدثنا قائلًا: يفترض في مجتمع الذكاء الاصطناعي أن يـَميز المبدع من المفلس في ابتكار الذكاء الإنساني في الكتابة؛ إذ ثمة افتراض-افترضته أنا: غُراب =وهذا من غرائب الاغتراب- يرى أن الصحافة هي التي أنزلت الكتابة من عليائها، وجعلتها تحت تحكم البنية الاقتصادية والاجتماعية تحكما تاما. وهذه البنية هي التي تفجرت -الآن- في أنماط من الذكاء الاصطناعي في الكتابة، التي لا تحتاج إلى ذكاء إنساني. ويمكن تتبع هذا الافتراض من خلال تاريخ كتابة المقالة. فإذا كان الأمر كذلك؛ فهذا يعني أن الكتابة الصحفية تُقيِّم بناء على خوارزميات حاسوبية، فستكون المفارقة أن من سيحدد المبدع من المفلس هو الذكاء الاصطناعي نفسه!. أليس هذا من غرائب الاغتراب؟

(6)

وحدثنا قائلًا: تحدث عبد الفتاح كيليطو في مقالته (من الشرح إلى الترجمة) عن نوعين من الكتابة؛ الأولى: كتابة لا ترى، وهي ما كان المهم منها الخبر أو النبأ. ويمكن أن يقال هنا شرحًا -بما أن المقالة عن الشرح- الخبر له تفرعات، منها ما يظهر على شكل رأي أو تحليل. والثانية كتابة تُرى كلماتها كبريقٍ متميز في ذاته، وهذا ما يميز النثر الفني. أليس من غرائب الاغتراب أن تكون الكتابة التي لا تُرى، كتابة تُرى بقوة من لا يُرى؟

(7)

وحدثنا غراب بإطناب قائلا: من مفارقات الحياة أنها فتحت أبواب الاقتصاد، وأغلقته في آن واحد؛ فتحته حين تنوعت المعادلات الاقتصادية، إذ اجتاحت موجة (المابعد)، موانئ الاقتصاد الكلاسيكي، فأضافت لمعادلة الاقتصاد (الأرض والعمالة ورأس المال) معادلة (المعرفة الفنية والإبداع والذكاء والمعلومات)، وهو ما يسمى باقتصاد المعرفة، وأغلقته حين وسعت من الفجوة بين الواقع العملي، وطبيعة ما يريده بائع قوة عمله، ولنفرض هنا أنه كاتب، إذ سيصبح مغتربا عن مصادر الدخل الجديدة، وفي الوقت نفسه يدركها، فيسأل: عن طبيعة القيم القديمة؟ مثل: هل الكاتب لا يصح له أن يبيع قوة إنتاجه؟ هل لهذه القيم ثبات أم هي متغيرة؟ إلا أن الواقع العملي-وهو اقتصاد المعرفة هنا في سياقنا-له الكلمة النهائية؛ حين أنزل الموهبة من السماء إلى الأرض، أنزلها من كونها مقدسة إلى أن تكون سلعة تباع وتشترى، أنزلها من اللاهوت إلى الناسوت إن صح التعبير!، ولمّا أنزلها أخضعها إلى سوق العرض والطلب ككل السلع، وقد يتذبذب الوعي مع هذا التغير الاقتصادي، فلا إشكال -الآن- في الوعي العام أن يجلس الكاتب على طاولة أحد المقاهي؛ ليتفاوض مع أحدهم ليكتب له نصًا أدبيًا، بالشروط التي يريدها. فقوة المعرفة الإبداعية -الآن- تساوي قوة العمل العضلي آنذاك. وليست المسألة تغير الوعي بعد أن تغيرت طبيعة الاقتصاد فحسب، بل إن تقديس المعرفة قديما لم يكن إلا استجابة لمفاهيم لاهوتية، فلما انفكت العلاقة، أصبح من السهل أن يعطى رأي دون تأنيب الضمير. وتبقى مسألة أن يبرم عقد لبيع قوة المعرفة أو الموهبة -التي يمكن أن تسمى (غربة التعاقد المعرفي)- هي الفيصل في تأثير الحياة المعاصرة.

ثم قال غراب: وفي هذا التغير حكايا وسرديات تروى بين مفارقات زمنية تكشف لعبة القيم، وبين كشف طبيعة التغير ورصده، وبين كيفية استجابة الوعي لذلك، وعلاقة المجتمع في هذا التفاعل. ثم: أليس هذا من غرائب الاغتراب؟

(8)

وحدثنا غراب متعجبا: من غرائب ما وقع، اتفاق بين طالب دراسات عليا، وكاتب. ينص الاتفاق على أن يختار الطالب صديقه -الكاتب- موضوعا للدرس، على أن يكتب الكاتب ما يناسب منهج الطالب المختار. ولا يُدرى ماذا جرى على هذا الاتفاق. لكن أليس هذا من غرائب الاغتراب؟

(9)

ثم قال لي غراب: ألا ترى أن بين هذه القفزات التي حدثتك عنها تناقضًا؟ إن رأيته؛ أليس هذا من غرائب الاغتراب؟

التفاتة:

حدثنا غرابُ عن الفيلسوف الكوري بيونغ هان أنه يقول: «في مجتمع يدبر فيه كل فرد نفسه بنفسه، يسود اقتصاد البقاء»

التفاتة عن الالتفاتة:

أما أنا فأُحدّث غرابًا لأقول: إن الناقد ما بعد الأخير هو الذي جاء لينقد أسلوب الناقد في سلسلة تاريخه.