عندما صامت مكة رمضان، في نحو منتصف القرن الأول للهجرة، شعرت لأول مرة أن المسجد الحرام يضيق بالمصلين في قيام التراويح، فالتمست الرأي عند أميرها «خالد بن عبد الله القسري».

وكان خالد جريئاً لا يطيل التردد فيما يعتقد صوابه، فما يمنعه أن يأمر في أسلوب حاسم، أن يدير جماعة المصلين صفوفهم حول الكعبة من جهاتها الأربع.

لقد كان جديداً على المؤتمين أن تدور صفوف جماعتهم حول الكعبة، وهم لم يتعودوا الصلاة قبل ذلك اليوم في جماعة، إلا في جهة واحدة يقابلون فيها باب الكعبة.. ولكن خالداً لم يجد عند علماء الدين، ما يعارض إدارة الصفوف الجماعة حول الكعبة لأول مرة، في مثل هذه الأيام من مثل هذا الشهر.

وأضاف القسري إلى أولياته في رمضان «منادي السحر»، فقد خصص مَن يتحرى وقت الإمساك فوق جبل أبي قبيس، ليعلن في الناس بصوت جهير: أمسكوا رحمكم الله. وظل منادي السحر فوق أبي قبيس مناطاً لإمساك الصائمين إلى عهد الرشيد، قبيل نهاية القرن الثاني من الهجرة.. فقد رأى الرشيد أن تتسع آفاق هذا النداء، فأمر بأن تبنى المنائر على رؤوس الجبال المشرفة على فجاج مكة، من أدناها إلى أقصاها، وأن يعهد بتحري وقت الإمساك إلى مختصين يعلنونه للمنائر، لتنادي به في سلسلة متصلة الحلقات، منارة بعد أخرى تبدأ بأعلى مكة، وتنتهي بأسفلها، وتتخلل جميع شعابها.

وعندما أهملت المنائر وتطرق الخراب إليها بتوالي الأجيال، استعاض الناس في مكة عنها بأخشاب طويلة كانوا يضعونها في رأس إحدى المنائر، ثم ينيطون بها قنديلين متعارضين، يُطفآن إذا حان الإمساك.

فكان أهل مكة يتحرّون إطفاء القناديل من فوق سطوحهم المرتفعة البعيدة من المسجد، وقد ظل الأمر على هذا إلى أوائل العهد العثماني، حيث عرفت مكة إطلاق المدافع، ولم تقتصر حفاوة مكة القديمة برمضان، على موضوع للإمساك، فقد أضيفت إليه أصوات الدبادب، التي كانت تعلن حلول رمضان قبل اختراع المدفع.

وفي هذا يحدثنا ابن جبير الرحالة المسلم، الذي زار مكة بعد منتصف القرن الخامس الهجري، فيقول: «إن دبادب الأمير أخذت تضرب في مكة ليلة الشك، إيذاناً بصيام يوم الشك». ثم يقول: وللمسجد فرقعة يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المغرب، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء".

ويلذ لي أن أستطرد وإيّاكم في طرائف ما يرويه لنا ابن جبير، عن شهر الصيام في مكة القديمة، فقد شهد رمضان في هذا البلد، واختلط بأهله، وعاشرهم أشهراً طويلة، وكتب عن ذلك يقول: «ما أذنت ليلة الشك بحلول مكة، حتى بدأ مسجدها يتلألأ نوراً وتفرق الأئمة فرقاً لإقامة التراويح، فلا تجد في المسجد زاوية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، وقد صفت الشموع على اختلاف أنواعها في جهة من محاربهم.. ورُؤي رمضان في المصلين يطوفون بين كل تسليمتين سبعاً».

ثم يقول: «ويتولى التسحير في مئذنة باب على المؤذن الزمزمي، لقرب المئذنة من دار الأمير، ومعه أخوان صغيران يقاولانه ويجاوبانه في أصوات رقيقة».

حتى ولسنا نعجب لما ذكره ابن جبير، من تفرق الأئمة لصلاة التراويح في المسجد في جماعات متعددة، فقد كان تعدد الجماعات في المسجد، حتى في الصلاة المكتوبة، طريقة سائدة لعدة قرون طويلة من تاريخ مكة، ولا يزال كهولنا يذكرون أن الأئمة الأربعة كانوا يتناوبون الصلاة إماماً بعد آخر، ألغيت هذه الطريقة في عهد حكومتنا الحاضرة، واكتفى المسجد بتوحيد المصلين في جماعة واحدة.

ولم يكن تعدد الجماعات وسيلة التناوب بين الأئمة في جميع العهود، بل إن بعض هذه العهود كانت تبيح للأئمة أن يؤموا أتباعهم في وقت مشترك.. فيركع الشافعي، بينما يسجد الحنفي، ويعتدل الحنبلي، بينما يتشهد المالكي، وبذلك كان التشويش يعم جميع المصلين في المسجد.

وفي العهد الذي شهده ابن جبير كان يصلّي إمام الزيدية، في محراب خاص به، كما يصلي أئمة المذاهب الأربعة.

ونستمع إلى رحالة من أنداد ابن جبير، شهد رمضان في مكة في أوائل القرن الثامن الهجري. ذلك هو العلامة ابن بطوطة، الذي كتب عن مشاهداته في مكة، فوصف أحوال رمضان بنحو ما وصفها به ابن جبير.. فهو يذكر الطبول والدبادب، ويذكر المؤذن الزمزمي وقناديل المئذنة، التي كانوا يطفئونها إشارة إلى الإمساك. كما يذكر حفاوتهم بالشموع والمشاعل في ليالي رمضان، ويضيف عنايتهم بحصر المسجد التي شهدهم يجددونها، ويزيدون عليها مثلها. ويبدو أن أفواج المعتمرين الذين نشاهدهم اليوم يحيون أكثر ليالي رمضان، بين مسجد التنعيم والمطاف والمسعى، كان لهم شبيه في عهد ابن بطوطة، إلا أن حفاوتهم كانت تبلغ غايتها في شهر رجب، أكثر ممّا تبلغه في شهر رمضان.. فقد رأى ابن بطوطة مواكب الأهليين تتزاحم في شهر رجب، في طريقها إلى العمرة يمتطون الخيل والنوق، ويتجمهرون فوق صهواتها وهم يلعبون بالأسلحة، ويقذفون حرابهم في الهواء، ثم يلقفونها. كما رأى الهوادج تغص بها شوارع مكة، عليها أكسية الحرير والكتان.

وكما نشاهد اليوم زحام القادمين من جدة وما يليها من القبائل والقرى، لقصد الاعتمار في ليالي رمضان، شهد ابن بطوطة زحام القبائل وهي تسيل من بطحاء مكة، في طريقها إلى التنعيم، وهو في هذا يقول: ورأيت أهل الجهات الموالية لمكة مثل بجيلة وزهران، وغامد، يعنون بزيارة مكة ويشاركون أهلها حفاوتهم بالعمرة، ويجلبون معهم إلى مكة كثيراً من منتجات بلادهم فيعم الرخاء.. إلى أن يقول: «وهم يعتقدون أن بلادهم لا تخصب حتى يبروا مكة بما ينتجون».

والذي أقوله إن هذا الاعتقاد، ما زال سائداً في أكثر القبائل الزراعية حول مكة إلى اليوم، ولا يزال يعيش بيننا من يؤمن بأن باكورة إنتاجه، لا يجوز بيعها خارج أسواق مكة، مهما كلفه ذلك.

ويمضي ابن بطوطة حتى يصف القبائل من غامد وزهران في عهده، فيقول: إنهم فصحاء الألسن، صادقو النية يتطارحون على الكعبة داعين، بأدعية تتصعد لرقتها القلوب، ويتزاحمون عليها حتى يعجز غيرهم عن الطواف معهم، وهم شجعان أنجاد ولباسهم الجلود، وإذا وردوا مكة هابت أعراب الطريق مقدمهم.

1982*

* أديب وصحافي ومؤرخ سعودي «1905-1984»