عمل مدير البحث بالمركز الوطني للبحث العلمي، ومدير الدراسات بمدرسة (الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية) في باريس أوليفيه روا، طويلًا على دراسة منهج جماعة الإخوان المسلمين، وفروعهم، وتاريخهم، ومن اللافت أنه كان قد أعلن في (1993) عن فشل مشروعهم، في وقت مبكر عن تجاربهم اللاحقة، كتولي الرئاسة في مصر (2012)، واصل أوليفيه أعماله ومنها كتابه (الجهل المقدس) في (2008)، وخلال عمله الطويل وصل إلى نتائج لافتة في تشريح جماعة الإخوان وما تفرّع عنها.

ومن أهم تلك النتائج التاريخية التي وصل إليها أنَّ جماعة الإخوان حاكت في طريقتها تجربة اليساريين في القرن العشرين، إلى درجة يمكن القول فيها بأنهم امتداد لأفكار اليسار وتحركاتهم متمثلة في الحزب الشيوعي، ففي البداية احتكوا بالأفكار اليسارية عن قرب في الجامعات، ولم يكن كبار قادة جماعة الإخوان من خريجي كليات الشريعة، بل من فروع أخرى، ثم قاموا بتغطية الأفكار اليسارية بطبقة من الشعارات الدينية.

كان قادة الحزب الشيوعي الروسي على سبيل المثال يعيشون خارج روسيا، ويطلقون من الدول التي يقيمون فيها منشوراتهم، وكتبهم، وجرائدهم، موجهة إلى بث دعايتهم داخل الحدود، ويوزعها جهاز الحزب الشيوعي سِرًّا، حينها كانت روسيا مشغولة بالحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وتعاني من نقص في المواد الغذائية، ومع ثورة (1917) اضطرب الاستقرار السياسي داخل روسيا وتشكلت فيها حكومة جديدة، وقررت تلك الحكومة مواصلة الحرب على ألمانيا، حينها كان لينين-وهو قائد نشط في الحزب الشيوعي-في منفاه في سويسرا، وواجه عقبة هو ورفاقه في الوصول إلى الأراضي الروسية، لقيادة الحزب من الداخل للعمل على إسقاط الحكومة، والوصول إلى السلطة، وحتى يصل إليها تفاوض مع عدوة بلاده ألمانيا في وقت الحرب لتسهيل وصوله، فعرض عليهم أنه في حال وصل إلى الحكم سيضمن لألمانيا انسحاب الجيش الروسي الكامل من الجبهات المشتعلة، والقبول بمعاهدة سلام مع ألمانيا.

وافقت ألمانيا على هذا العرض، وما أن دخل لينين إلى روسيا حتى بدأ بنشاطه لإسقاط الحكومة الروسية، وإشاعة القول بأنَّ الحرب خاسرة، وأنّ الجنود يجب أن يرجعوا إلى ثكناتهم، نشر حزبه الدعاية على الجبهة بأنّ الجنود الروس إخوة لأقرانهم الألمان، تحت شعار (الخبز والسلام) ومع اشتداد شح المواد الغذائية نجح في تجييش الشعب، وكثر هروب الجنود من الجبهات، فشكل من هؤلاء الهاربين جيشًا خاصًا بحزبه، لقّنهم التعاليم الماركسية وخاض بهم حربًا أهلية داخلية، مما أدى إلى تفكك الجيش الروسي بين ما سمي بالجيش الأبيض، في مقابل جيش الحزب الشيوعي وهو الجيش الأحمر، واستمرت الحرب الأهلية ما بين (1917-1921).

وفي (1918) عاد إلى الجلوس على طاولة التفاوض مع الألمان للوفاء بالتزامه بالانسحاب من الحرب، فكانت الشروط الألمانية قاسية، إلا أنه لم يعبأ بذلك، فوقع على التزام بها، وبهذا ظهرت اتفاقية بريست ليتوفسك معلنةً انسحاب روسيا من الحرب، والتنازل عما يقرب من (%30) من مجمل عدد سكان روسيا إلى ألمانيا، بما في ذلك (%90) من حقول الفحم، وأكثر من (%50) من المناطق الصناعية!

هذه الصورة تعطي تصورًا عما يمكن لجماعة الإخوان أن تفعله، تلك التي حاكت الأحزاب اليسارية في طريقتها للوصول إلى السلطة، حين تنقلب الموازين، ولا يعود لمفهوم خيانة الوطن من وزن في أذهان هؤلاء، بحجج كثيرة، فكان الحزب الشيوعي على سبيل المثال يسوغ أفعاله باسم الأممية، فلا يرى للوطن أي قيمة، وكل الخطوات مباحة في سبيل وصوله إلى السلطة، وتحقيق أيدلوجيته السياسية.

وفي غمرة محاكاة هذا الخط، رأت جماعة الإخوان أهمية الهروب إلى خارج الحدود السياسية للدول التي تسعى إلى إسقاطها، وإشعال الحروب الأهلية فيها، بحجة المعارضة من الخارج، تمامًا كما كان يفعل القادة الشيوعيون، فتحتضنهم تلك الدول لتجعل منهم ما يشبه جنود الاحتياط حتى يحين استخدامهم، وأظهر التاريخ أنّ ألمانيا عبر اتفاقها مع حفنة من هؤلاء، كسبت ما لم تقدر على تحقيقه في الحرب نفسها، فبمجموعة تتحرق للوصول إلى السلطة، حازت مناطق شاسعة من روسيا، بل الأقاليم الأغنى فيها، فحري بكل وطني غيور أن يعرف ما الذي يسعى إليه هؤلاء، وهم يشجعون غيرهم على خيانة بلادهم، والارتماء في أحضان دول كبرى، ليضحوا لعبة في يد الاتفاقات السرية مع أجهزة المخابرات المختلفة، في أمل لتسهيل عودتهم متى يحين وقتهم، ووعي المواطن السعودي، وانتماؤه لوطنه، كفيل بأن يفوّت الفرصة على جميع مشاريع الخيانة.