تستطيع أن تقرأ الخلل البنائي التنموي في تعامل الكوادر الإدارية مع إفرازات الطفرة المالية الحالية عبر خلل شارد يبرزه خبر صغير لم يلفت أحداً، وفيه يعلن صندوق التنمية الصناعية عن قروض مليونية لبضعة مشاريع في دعم القطاع الخاص تصل بجملتها إلى ملياري ريال، وفي العام الحالي وحده. تستطيع أن تخرج من الخبر الصغير الشارد بمثل ما يلي:

أولاً: إن الصندوق نفسه، ومعه طواقم الاقتصاد والتخطيط، ما زالوا أسرى للمربع الأول القديم وهم يبرهنون أنهم لا يستوعبون أبسط مفاهيم التدرج في المشروع الصناعي. وحين تقرا أسماء المشاريع المدعومة من صندوق حكومي يمول من المال العام تصاب بالدهشة، إذ لن تجد فرقاً بين أسماء هذه المشاريع بنهاية العام 2012، وبين تلك التي أعلن الصندوق ذاته دعمها ليلة ولادته قبل عقود من الزمن. تتشابه الأسماء حد التطابق اللغوي؛ حين تذهب المليارات الوليدة إلى جوار قبور المليارات الميتة في دعم مشاريع مثل مصانع الطوب الأحمر وقوالب البلاستيك والأعلاف وخطوط إنتاج الأنابيب ومصانع البلاط ومستحضرات الدهانات المنزلية. ومن المؤسف بمكان أن هذه الأفكار المستنسخة من ذات الأوراق القديمة في أفكار الصناعة الوطنية لم تمض بنا متراً واحداً لتأخذ البلد بعد أربعين عاماً إلى صناعة ثقيلة واحدة تحمل وزناً يأخذنا إلى منعطف جوهري في مستقبل الاقتصاد الصناعي. وخذ بالمثال أن بلداً مثل ماليزيا يستقطب اليوم ما يقارب 32 نقطة صناعية حقيقية لخطوط إنتاج السيارات لما يقارب 13 شركة عالمية تعمل في هذه الصناعة. خذ بالمقاربة أن شركة مثل –Intel- للبرمجيات والحواسيب تستقطب كل صباح ماليزي ما يناهز 18 ألف موظف من أبناء نفس البلد في النقطة العالمية الأولى الأغزر إنتاجاً من بين كل فروع ومصانع هذه الشركة. وحتى في اختيار المكان، اختارت ماليزيا أن تمنح نفس الشركة ذات الامتياز على بعد خطوة مسافية من أقصى حدودها الشمالية مع تايلند لتحسين وتيرة الاقتصاد الإقليمي في واحد كان من أكثر أقاليمها فقراً في آسيا ليلة رحيل المستعمر البريطاني. لك من الحساب مجرد تخيل 18 ألف أسرة تعيش على استثمار حقيقي لثالثة أكبر شركات الكون في أحدث صناعة التكنولوجيا. وأنا لا أعلم، رغم محاولتي، أن أعرف الرقم الملياري، الذي صرفه صندوق التنمية الصناعية في دعم المشاريع الصناعية منذ ولادته حتى البارحة، وكل ما أستطيعه هو أن أقول إنه فشل بكل امتياز أن يخلق الهدف التلقائي في نقطتين: أن يدخل البلد إلى مستقبل صناعي ثقيل وحقيقي، وأن يكون ذراعاً حقيقياً لتوطين الوظائف وخلقها. مجرد أن تصلي الظهر جماعة في قلب هذه المصانع ستعطيك صورة ناصعة عن هذا الفشل.

ثانياً: إن الصندوق نفسه، قد فشل بكل امتياز أن يتلمس خريطة وطنية واضحة المعالم تعطي كافة المواطنين اطمئناناً مؤكداً على أنهم جزء من هذا الاستثمار الصناعي الذي يمول من المال العام. وفي السواد الأغلب، يبرهن هذا الصندوق، بدلالة الخبر الأخير، أنه مجرد تكريس وتكديس صناعي في أربع مدن معروفة لا يخرج منها إلا لماماً وفي زلات معدودة وشاردة. فشل الصندوق بشكل واضح في أن يخلق عدالة متوازنة في توزيع خارطة المشاريع بما يضمن فرصة أمام القوانين اللاحقة لفتح فرص عمل في قلب هذا الاستثمار الضخم. تحول الصندوق وكأنه مجرد فكرة غير مكتوبة للإقراض من المال العام إلى ناد مغلق من رجال أعمال محددين. تستطيع أن تذرع مئات الكيلومترات من الخريطة الوطنية دون أثر لهذا الصندوق، وفي المقابل تستطيع في أماكن أخرى أن تشاهد هذه المليارات الهائلة متراصة حول بعضها البعض بمجرد السير على قدميك. وكل العلة الواضحة أن كوادر الصندوق لم تغير أوراقها البيروقراطية منذ أربعة عقود وبالتالي لم تلتفت إلى تلمس أفكار جديدة في التطور النوعي لدعم المشاريع أو في طرائق توزيعها المختلفة على المساحة الوطنية. مثل هؤلاء إنما يكررون تجربة دوام روتيني ليوم واحد ثم يسحبونها على بقية الأيام لأربعين سنة. يبرهن صندوق التنمية الصناعية أنه لا يقرأ أبداً حتى المفردات اللغوية في الأهداف التي كتبت للصندوق حين كان مجرد فكرة إنشائية: أن يتحول مع الزمن إلى أفكار متقدمة تربط القروض المليارية نفسها بثلاثة محاور من دونها لا داعي في المطلق للصندوق: الأول: أن يكون فكرة بديلة لتوجيه الصناعة وربطها بأفكار نوعية متقدمة. الثاني، أن يكون إضافة تنموية بربط الموافقة على منح القرض بالاتجاه إلى أماكن جديدة على الخريطة الوطنية لدعم المسارات التنموية في التخطيط الإقليمي، الثالثة، أن تربط هذه القروض بخطة واضحة للسعودة وتوطين الوظائف والتقنية. بعد أربعين عاماً، وربما 400 مليار... لا شيء من هذا يبدو في الأفق.