رمضان كعادته.. أتى بعد شوق له.. ومر سريعا وفي النفس لهفة لم تنطفئ جذوتها عشقا له ولأجوائه وروحانيته ولياليه وبركاته.. شهر جعل الله لنا بعده العيد مكافأة غالية يعزز لنا فيها الشعور بالفرح بالشهر المبارك وأيام العيد السعيد.

بركات هذه الأيام وتميزها تأتي من ارتباطها بممارسة الروحانية الرمضانية من خلال أداء العبادات كصلاة التراويح وتكثيف قراءة القرآن والصدقات وإعداد وجبات الإفطار والسحور في البيت أو الوجبات الجاهزة ومن ثم توزيعها على من يحتاجها.. وبالصدقات والزكوات وغيرها من صالح الأعمال التي يكون لها في رمضان لذة تختلف عن أدائها في باقي شهور العام.

بركات الشهر الكريم وأيام العيد المباركة لا تقتصر على الطاعات وصالح الأعمال فقط، إنما إحسانه وخصب بركاته تمسحان بيد السعادة على مشهد حياتنا الاجتماعية سواء في الأسرة الواحدة أو مع المجتمع المحيط من خلال الاجتماعات العائلية التى تحرمنا منها مشاغل الحياة أثناء العام، أو من خلال الالتقاء بالجيران وأهل الحي بالمساجد.. والتي سبحان من جعل وجوهنا فيها ضاحكة مستبشرة مطمئنة، فمشاعر الود جياشة وتعابير الحب تتضاعف مع كل آمين يعلو صوت الإمام بها مع تفاصيل دعاء الوتر.. ومن ثم مع مباركات العيد في المسجد، الممتزجة ببهجة الأطفال وفرحهم وهم يتبادلون الحلوى والعيديات البسيطة في ساحات المساجد وشوارع الأحياء السكنية.

ممارسات بسيطة لكنها تعزز الفرح عند الصغار والكبار، تطل علينا كل عام مع هلال رمضان، وتختفي مع عودتنا لحياتنا الطبيعية بعد إجازة العيد.

فلماذا لا نحافظ عليها قدر المستطاع؟.

نعلم أن لروحانية رمضان مشاعر حصرية انفرد بها الشهر الكريم، ولكن هناك كثير مما يمكن فعله يجعلنا نحافظ على هدوء المشاعر، وتوازن الانفعالات، والطمأنينة التي لا يعكر صفوها عارض، وأولها وأهمها علاج أنفسنا من إدمان مواقع التواصل.

عن تجربة شخصية ارتحت كثيرا عندما ابتعدت عن تويتر وتوتراته، ومقاطع السناب والتيك توك واستفزازاته، والواتساب وإزعاجاته، وأبقيت علاقتي قوية فقط مع ما يعزز المعرفة والثقافة وتطوير الذات عندي في اليوتيوب الذي يعد بديلا جيدا للكتاب الذي أستطيع حمله معي أينما كنت.

تجربتي هذه جعلتني أدرك أن الحياة أسهل بكثير وأكثر متعة بعيدا عن العالم الافتراضي، وأن البعد عنها يمنحنا مساحة وقت كافية لنكون في صفاء وتفاهم مع أنفسنا ومع من نحب دون عزول افتراضي يسرق منا وقتا نحن ومن نحب أحق به من منصات غثها يطغى على سمينها.

نستطيع أيضا أن نحافظ على مشاعر الود والألفة من خلال اجتماعاتنا الأسرية وتواصلنا مع المجتمعات البشرية الحقيقية خارج نطاق حدود العالم الافتراضي، خاصة أن تحولاتنا المجتمعية استصلحت لنا الأرضية الترفيهية بحيث أصبحت قادرة على استيعاب متطلبات الترفيه العائلي، سواء من خلال فعاليات الترفيه أو المطاعم التى تناسب كل الأذواق، أو من خلال سياحة تستحق أن نشد الرحال إليها ونحن نحمل ضغوط حياتنا معها لنعود منها بلا وزن زائد من أحمال حياة تجعل تفاعلنا معها بشكل إيجابي صعبا.

وليتنا لا نهمل فعاليات اجتماعية ولكنها تعزز الروحانية في نفوسنا ككبار وتضع لها أساسا قويا ونحن نبني البنية الأخلاقية التحتية التي ستنشأ عليه شخصيات أطفالنا، وذلك من خلال الحرص على عدم انقطاع اجتماعات الأهل الأسبوعية، مع فعاليات بسيطة كإعداد وجبات أو صدقات بسيطة توزع على العمالة بشكل مرتب.. وكذلك تفقد ذوي الاحتياجات العاطفية ممن يرقدون في المستشفيات أو دور الأيتام أو كبار السن، وغيرها كثير مما يعود علينا بالأجر والفائدة والسعادة.

أخيراً وليس آخر، علينا قبل كل هذا أن نغلف أنفسنا بغلاف سميك من هدوء يساعدنا على التأمل الذي يضع نعم الله علينا تحت المجهر لنراها بوضوح يجعلنا نستصغر كل عارض قد يعكر صفو استمتاعنا بها، وأن نكثر الحمد والشكر الذي بهما تدوم النعم وتزيد.

هناك كثير نستطيع من خلاله أن نعيش بغزارة سعادة لا تنفد. أشياء بسيطة ولكنها ذات أثر كبير، فليتنا نتنبه إليها.