دخلت إلى مقهى بيروتي، ربيع عام 2011، وجلست بجوار رجلين كبيرين في السن، أحدهما يلبس نظارة مقعرة، أعطت لوجهه -المعلم بالتجاعيد، والمصبوغ بالبقع البرتقالية الغامقة التي تتجاور مع اللون البني الفاتح، مع تساقط شعر أصفر باهت على الوجه، ولبس بدلة تتموضع بين الرسمي وغير الرسمي- شكلاً مميزاً جميلاً بمواصفات غريبة نابعة من علاقة غريبة مع ذاتي، لهذا بقي مرسوماً في ذاكرتي كتحفة فنية، وكأن ملامحه تدلني على تجاعيد تاريخ مجهول في أعماقي. وأما الرجل الآخر فلا يحمل صفة تميزه عن الوجوه المتعددة في المقهى أو هكذا رأيت.

ولكوني وحيداً في المقهى -بعد أن هربت من صاحبي (الغثيث)، وتركته نائماً في الفندق- فإني استمعت لحوار هذين الرجلين، بإنصات حميم، وتأملت صداقتهما التي أحيت في ذاكرتي شيئاً مغيباً، وتوطد تعجبي منهما حين كانا يقفزان بين موضوع وآخر، دون أن يكتمل شيء ما، وكأنهما يعبران عن شكل طبيعة بيروت. تحدثا -مثلاً- عن هتلر بحديث رأيته مختلفاً عن أحاديث متعددة، لأنه يحتكم إلى نمطين في التاريخ عن الشخص نفسه، أو هكذا ظننت من شدة بساطتهما، وفي الآن نفسه عمق ما يتصوران. ولعل هتلر مجرد نموذج يستخدمانه. كانا يجلسان بطريقة غريبة، حيث يتجاوران، كأنهما في مقعد سيارة. يقوم أحدهما إلى النافذة المطلة على الشارع، فيصف المارين في الشارع بوصف مركب غريب، ثم يعود ليجلس فيذهب الآخر لينفذ المهمة ذاتها، ولكن لا بد أن يضيف شيئاً لم يقله صاحبه. جاءني فضول لأعرف لم يفعلان ذلك؟ هممت بسؤالهما، لكن تراجعت، كي لا أفسد المشهد.

لا أظن أني أستطيع إحصاء كم كتاب وبحث ومقال، كتب عن هتلر، لكن يبدو أني أستطيع أن أضع لها إطاراً يحدد نتائجها بصورة مسبقة، وذلك بالتفكير فيما يسيطر على الطابع العام عن هتلر، ومن ثم أضع الخط العام لنوع الكتابة عنه. ومن هنا كانا صديقا المقهى مفاجئين بما قالاه. استرقت النظر إلى طاولتهما فوجدتهما يغمسان طرف قطعة كعك في فنجان القهوة، لا أدري -حينها- لماذا يفعلان ذلك؟ عقدت الصلة بينه وبين ألمانيا، بناءً على أن موضوعهما الحالي (ألمانيا)، فلما بحثت عنها وجدت شيئاً كهذا، لكن لا أظنه كما فعلا.

سجلت حديثهما بتركيز، إذ أول جملة سمعتها جاءت من قبل الرجل الآخر: «لماذا هرب أينشتاين من ألمانيا؟» أجاب الرجل غريب الشكل: لأنه صهيوني، ولم يفهم هتلر كما يليق بالواقع. فغر الرجل الآخر فاه، فابتسم ثم علت ضحكته قائلاً، أينشتاين ليس واقعياً. كم أحب (نهفاتك). نصب الرجل الغريب ظهره، وأبعد كوب القهوة عن طرف الطاولة، ثم أخذ حقيبته من المقعد الأمامي، فأخرج قصاصة جريدة قديمة من الحقيبة -وكأنه يعلم أنه سيتحدث عن هتلر- قائلاً، اسمع إلى هذا المقال الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، ومضمونه تجربة صاحب المقالة في ألمانيا أيام هتلر، وتحديداً في الثلاثينيات. اسمع: «خرجت في يوم ربيع عام 1936، لأشتري برتقالاً للبيت، إلا أني تعبت من البحث عن حبة واحدة على الأقل. ولما دخلت عند آخر محل فواكه، سألته: ما قصة نفاد البرتقال من السوق؟ فقال ألا تعلم أن هذا اليوم هو عيد ميلاد هتلر. قلت له: وما علاقة البرتقال في الموضوع؟ قال البرتقال تشتريه الدولة، لأن هتلر لا يشرب الخمر. قلت له: لماذا ليس تفاحاً مثلاً؟ قال لأن البرتقال عدو الخمر، فهو لا يختمر في المعدة أبداً». هنا سمعت ضحكة عالية من الرجل الآخر، ويتفوه بكلمات لا أكاد أميز إلا بعضها. ومما قال ربما هذه حقيقة، لكن ما قيمتها؟ ابتسم الغريب -بالمناسبة علمت من النادل أن وظيفته غريبة كشكله، كان يعد الخطب لمؤتمرات المؤسسات المتنافسة- ثم قال قيمتها إنها تاريخ المهزومين. ابتسم صديقه -الذي لا أعرف وظيفته- وقال، وهل تعطيه قيمة، لأنه تاريخ لم يكتبه المنتصر؟ لم لا يكون تاريخاً كتبه المنتصر الذي يسكن الوجه الآخر من الرؤية؟ هل تعلم أنه في عام 1937، عرض خط يد هتلر على عالم النفس كارل يونج، فقال إن كاتب هذه الكلمات ليس سوى امرأة كبيرة. امتعض وجه الرجل الغريب، ثم قام من مكانه، وأقفى -وكأنه يمرن رجليه- ثم عاد قائلاً، وليكن، ما قيمة هذا الهذر الذي تفوه به (يونج)؟ فطالما لم نمحص خطب هتلر أيام الثلاثينيات، سنظل نرى التاريخ بوجه المنتصر، ثم مد يده لحقيبته وأخرج المقالة القديمة -التي يبدو أنها امحت ملامحها من ملامسة يديه- ليقرأ منها وهو واقف كأنه خطيب: «كان هتلر خطيباً مفوهاً، لا يجاريه أحد، يجتمع الناس قبل موعد خطبته، حتى النساء اللاتي يحملن أطفالهن يحضرن، بل لأول مرة لا أسمع صياح الأطفال، كأن على رؤوسهم الطير، ينصتون لهتلر»، ثم فتح الرجل الآخر على صفحة الكلمات المتقاطعة في جريدة ما -يبدو لي ولست متأكداً أنها جريدة النهار- ثم أخذ يسأل صاحبه: «شاعر ألماني من ثماني كلمات؟». غاب هتلر عن المقهى. وحضر في ذهني بشكل مفاجئ قول قديم: «كل ما يصل لهتلر من مراسلات، سبق وأن قرئ». خرجت من المقهى على وقع اتصال من صاحبي الغثيث في الفندق، لكن تملكني سؤال: «هل بيروت مقهى كبير؟» كأنني أمام مسرحية في وسط مقهى. فضلت أن أفكر في هذا السؤال، وأطلق عنان القلم، لا سيما أن حديث المبدعين عن بيروت، يقول -بعد تأمل- إنها مختلفة عن كل العواصم العربية، اختلاف عجائبي، لا اختلاف في الذاكرة التاريخية، إذ الثاني لا جديد فيه، فهو الأصل بين مدينة وأخرى.

التفاتة:

يقول سيوران: «كل إنسان هو آدم، يجب عليه أن يبدأ كل شيء من جديد، فللتاريخ مجرى، ولكن ليس له معنى».

التفاتة عن الالتفاتة:

‏أما الرجل المسن الغريب فيقول، للتاريخ مجرى وحوار صاحبي هو المعنى.