روي عن سيدنا عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قوله «موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار»، تذكرت هذه الحقيقة، وأنا أهم بالكتابة عن فقيد العلم وطلابه، وفقيد الوطن بأكمله، الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء، وقررت عدم سرد سيرته العلمية والعملية الحافلة، فهي مبثوثة في مواطنها، وليس هنا مجال ذكر تفصيلاتها.

من المحاور المهمة في حياة شيخنا الجليل، إصراره على الاستفادة بعد «مرحلة المعيدية»، من فرصة إكمال دراسته العليا في «الفقه المقارن» في المملكة المتحدة، وألا تكون دون موافقة شيخه الذي لازم دروسه في حلقته بالمسجد الحرام، وفي داره، الشيخ حسن بن محمد المشاط، القاضي بالمحكمة الشرعية، والفقيه المالكي المعروف، الذي اكتسب من علمه ومن الاقتداء به والتأدب على يديه المكارم والمعارف، وكان له ذلك بوساطة من أحد كبار طلبة الشيخ، السيد عبدالله بن حسن بن طالب الجفري، أملا في أن يهدي الله على يديه غيره، مع الدعوات بالحفظ والتوفيق.

الراحل تعمق في مجالات الفقه وأصوله، ومناهج البحث، وفقه المعاملات، والدراسات والأعمال المتعلقة بالتاريخ الثقافي والحضاري للمسجد الحرام وما أحاط به، وجسد بجلاء دور الحرم في إذكاء الثقافة الدينية والاجتماعية من خلال الأنشطة الاجتماعية التي كانت تتوافر حول ساحاته، وكيف حمل الحرم منارات العلم وسط الظروف الصعبة من التخلف والأمية التي مرت بالعالم الإسلامي، ومن يعرفه بالمجالسة أو بالاطلاع على إرثه في موقعه https://heawabusulaiman.info/ وغيره، يعرف أنه صاحب بصمات واضحة في مواضيع ومواضع الأماكن المأثورة بمكة المكرمة، رغم بعض الأصوات المتوجسة والمتوهمة من المحافظة عليها، وكان يؤكد الرغبة السامية في إبقاء الآثـار الإسلامية والمحافظة عليها، والمساعي المشكورة في ذلك، والدور الكبير الذي قام به جلالة الملك عبدالعزيز، رحمه الله، في العناية والمحافظة على موقع مولده، صلى الله عليه وسلم، وموافقته على إنشاء «مكتبة» في المحل ذاته، بعد استشارته لعلماء «منفتحين»، وتحديثه لدار «الخيزران»، ودار «السيدة خديجة»، رضي الله عنها، وكان صريحاً جداً في ضرورة الاحتفاظ بالتاريخ الحضاري القديم لمنطقة الحرم، والتحذير من أي تطوير يعزل عن تراث الماضي، أو يمنع من رؤية التاريخ حيا، وأن المتغيرات في مكة سريعة، والتطوير المبارك لها، لا يستغني عن الاستعانة بآراء الفقهاء والعارفين بالتاريخ المكي، ودور المسجد الحرام، وبيئته ومحيطه.

فرص علمية جميلة سنحت لي مع الفقيه الجليل، رحمه الله، وجلها كان عن «فقه المقاصد» الذي كان مرجعاً فيه، ومنها ما كان على ضفاف «النيل»، ولا يمكن أن يغيب عن ذاكرتي قوله إن «الفقيه الذي لا يعترف بالواقع لا يعترف به التاريخ ولا الواقع»، وتحذيراته من الأزمات الطائفية ومخاطرها، وتكراره من أن الله لم يخاطبنا بانتماءاتنا الفكرية أو بمذاهبنا، وعلينا الخضوع باختلاف انتساباتنا وآرائنا المذهبية لما يجنبنا الصراعات، وأن نحذر من مبتدعي المشاحنات والمشاكسات والداعين لها، وأن نكون أنضج وأوعى من الانزلاق نحو الأزمات المؤدية للضعف، وأذكر حديثه إبان ما يسمى «الربيع العربي»، ووصفه لجماعات الفوضى والإرهاب بأنها قد خرجت عن تعاليم الدين، وإفسادهم معتمد على فتاوى خاطئة يسوقونها للأطفال والسذج، وإجابته عن تدريسه في جامعة «المفيد» في مدينة «قم» بإيران: «لا يصح أن نفرق بين الناس بناء على الآراء الفقهية المذهبية المختلفة، ربي سيسألني عن عقيدتي، وليس عن عقائد الآخرين».. اللهم ارحم الشيخ عبدالوهاب، رحمة واسعة، واخلفه في عقبه ومحبيه في الغابرين.