وأنا أعمل في جيبوتي موفدا من قبل وزارة التعليم، تحدثت مع معلمة جيبوتية في استراحة بين الحصص. ونحن نتحدث لا أتذكر ما الذي رويته لها فقالت لي (كذاب).

لم يكن وقع الكلمة شديدا لأنها قالت لي ذلك وهي تضحك. شيء ما يشبه ما حكاه جاك لاكان عن الطفل الذي يُصفع. فإن قال له الصافع أنا أمزح ضحك، وإذا قال له أنا جاد بكى. وقد كنت ذلك الطفل، فهمت أنها تمزح لأنها قالت كلمتها ضاحكة وليست جادة. لكن ونحن نواصل الحديث، بعد أن (بلعت) كلمة (كذاب) تبين لي أنها لا تقصد من ذلك الكذب بمعناه الأخلاقي. بل أرادت التعبير عن أن ما سردته لها غير واقعي، أو غير معقول، أو حكاية، أو أسطورة. أو أي كلمة يستخدمها ناطق اللغة الأم، ليعبر بها عن غير العقلاني في الحديث.

أذكر هذه الحكاية لأن ما حدث معي أمس يستحق أن أتوقف عنده. كنت أقف منتظرا لدوري في الحساب في أحد المحلات التجارية. وفي موازاتي طفلة في السادسة في عمرها تقريبا. تبدو متعجلة، فتحدثت مع المحاسب حين جاء دوري بأن ينتهي من حساب الطفلة أولا، ثم ربتّ (وكلمة ربتّ هنا مهمة) على كتفها. نظرت إلي ثم سألتني: ليش تلمسني؟ ارتبكت. بالفعل ارتبكت؛ لأنني لا أعرف لماذا ربت على كتفها؟ فقلت لها: آنا أسف. ولم تعلق. انتظرت في المحل، فقد توقعت أن تخبر أحدا ينتظرها في الخارج، لكي أشرح له. أشرح له ماذا؟ لا أعرف. لو أنها سألتني: لماذا ربتّ على كتفي؟ لأجبتها لأنني.. ماذا؟ أيضا لا أعرف، لكن ربما أقول لها لأنك في سن حفيدتي، وأنا أحب حفيدتي.

يمكنني إذن أن أجد مخرجا لو استخدمت معي هذه الطفلة كلمة (ربتّ) فالكلمة تستخدم في العرف العام بمعنى ودي، ولا تحمل أي لبس. ثانيا لأنها كلمة تنسجم مع أعذار وتبريرات مع هذا العرف. مثلا لأنها تشبه حفيدتي، أو لأنني أحب البنات في هذه السن، أو لخفة روح البنات. وهناك عشرات التبريرات مخرجا لطفلة سألتك لماذا تربّت علي. أما كلمة (لمس) فهي تستخدم في سياقات مختلفة تماما، لعل أشهرها (لامستم النساء)، وما يترتب على هذا اللمس، وكيف تمحور اجتماعيا في معنى معين.

مثل هذه المآزق والانحرافات التي قد تظهر للفرد في حياته اليومية، لكنها تظهر أكثر للكاتب في كل مرة ينخرط فيها في الكتابة. والكتاب المميزون هم الذين يفكرون جيدا في اللغة وهم يكتبون. وإذا ما كنت فظا في رأيي فإن أغلب الكتاب السعوديين توجد عندهم مشكلة في لغة الكتابة.

ولكي أوضح هذه المشكلة فأنا لا أعني بها الأخطاء النحوية مثلا، إنما مشكلات من نوع (نظر بطرف عينه غاضبا) وصياغتها (نظر إليه شزرا)، وهي الصياغة التي تعبر أيضا عن النظر باستهانة والإعراض. وقد كنت أنصح في إحدى دورات الكتابة الإبداعية بأن يحتفظ كل كاتب بنسخة من كتاب «فقه اللغة وأسرار العربية» للثعالبي، فهو من الكتب العظيمة لا في الثقافة العربية، بل في الثقافة العالمية؛ أقول هذا توقعا وليس معرفة. قراءة هذا الكتاب باستمرار تخبرك بالكلمة المناسبة. مثلا تقرأ لا يقال كأس إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة، ولا يقال مائدة إلا إذا كان عليها طعام، وإلا فهي خوان، ولا يقال خاتم إلا إذا كان فيه فص، وإلا فهو فختة. وبالمناسبة فإن الفرق بين الفختة والخاتم معروفة في لهجتنا، وما زالت مستخدمة إلى الآن بين كبار السن من النساء.

نحن نتكلم هنا في أساسيات الكتابة، والمآزق والانحرافات التي تقود إليها حين لا تستعمل الكلمة في موقعها المناسب في النصوص الأدبية أيا كانت أنواعها. وقد كنت أناقش مع المعلمين أهمية الكلمة في بناء القصيدة أثناء تحليلهم النصوص الشعرية في المرحلة الثانوية بوصفها مهارة من مهارات التذوق الأدبي. هناك رؤية شعرية، ولا بد من أن تظهر في لغة شعرية. سأحلل مثالا على ما كنا نحلله معا من أجل أن يتبين للطلاب مهارة أساسية من مهارات التذوق الأدبي وهو مهارة أهمية الكلمة في بناء البيت الشعري.

نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول

البيت لكعب بن زهير في مدح الرسول، بعد أن أهدر الرسول دمه. والمعنى واضح: لقد أخبروني يا رسول الله أنك أهدرت دمي، وقد جئت إليك أملا في أن تعفو عني. لكن الشاعر لم يقل (خُبّرت) إنما قال (نبّئت) والفرق بينهما أن الخبر يحتمل الصدق والكذب، بينما الغالب على النبأ هو الصدق. وبالتالي (نُبئت) تعني أن ما سمعه الشاعر قول صادق. فضلا عن ذلك فقد استعمل الفعل (أوعد) ولم يستعمل الفعل (وعد)؛ لأن الوعد يكون في الخير، بينما (الإيعاد) لا يكون إلا في الشر، ومن شيم العرب أنهم ينجزون وعدهم، ويخلفون إيعادهم. فأوعد، يكون للشر، ووعد للخير.

وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

هذا المقطع من شعر التفعيلة من ديوان إدريس عيسى (باب يواربه الضوء: مرثيات: م).

غزال يصحو من غفوة فلاة

وكان يرتع تحت السنط

فلم يجد ظله

ولا الشجر الذي آواه

ولم ير الفلاة.

لنبدأ بما قبل هذا المشهد. في البداية كل شيء هادئ. يمكنك أن تقول تحت شجرة الطلْح أو القرَظ أو الأكاسيا. الغزال يغفو. تحيط به الفلاة. هذا هو الشاعر الدقيق في اختيار الكلمة. فغفوة الغزال ليست غفوة صحراء؛ إنما غفوة فلاة. هناك حيوانات كثيرة تعيش في الصحراء، لكن الغزال يعيش في فلاة. يمكنك أن تشرح بكلمة (صحراء) وصفاتها كـمقفرة، وواسعة، جرداء، قليلة الماء، لكي تشرح كلمة (فلاة)، لكن الشاعر لا يمكن أن يقول في قصيدة عن غفوة الغزال إنها (غفوة صحراء).

غير أن اختيار الكلمة المناسبة لا تغني أبدا عن التركيب اللغوي. مثلا

أعيا الفلاسفة الأحرار جهلــهـــــــم ماذا يخبئ لهم في دفتيه غدُ

طال التمحّل واعتاصت حلولهم ولا تزال على ما كانت العقد

البيتان من قصيدة لمحمد مهدي الجواهري في رثاء زوجته. وسأترك للقارئ التفكير في اختيار الكلمات التالية (الأحرار، التمحّل، اعتاصت)، والتأمل في التقديم والتأخير في هذين البيتين الرائعين.