حينَ صرّح وليّ العهد ـ حفظه الله ـ بأنَّ العديد من الأفكار يجب أنْ تتغير لمواكبة الزمن، كان قد لامس روح كلِّ مواطن سعودي ينشد الخير لبلاده، وكان كلامه واضحًا، بأننا نمثل عمقًا تاريخيًا، ودينيًا، وإستراتيجيًا، للمنطقة، وللعالَم، وأننا سوف نخوض التحديات، بما يضمن مصالح السعودية، وأنَّ الاعتماد بعد الله على المواطن السعودي، هذا المستوى العالي من إبراز أهمية الهوية الوطنية في خطاب القيادة، يدفع إلى بيان أهمية (الهندسة الفكرية الوطنية).

وحين نتحدث عن هذه الهندسة لا نبتدع مبحثًا لا تعرفه الأمم، وإن كانت العديد من مضامينه جديدة على المنطقة، ويُقصد بها: البحث الواعي العلمي للأسس الفكرية والثقافية التي تحدد مضامين الهوية الوطنية، بما يحقق مصلحة الدولة والمجتمع، ويتجاوب مع تحدّياتها، لتضحي نتائجها معيارًا عامًا للشعب فيما لا يتوقف على مفاهيم الهوية القانونية فقط، بل يمتد إلى التعليم، والثقافة العامة، والصفات الأخلاقية، وطبيعة الولاء، فالهندسة الفكرية ليست مجرد رصد لما هو قائم، بل تقييمه، لترشيح العناصر الأصلح في الثقافة.

فالوطنية وإن كانت مشتركة بين الأمم فكل دولة لها حدودها السياسية، إلا أنَّ كل دولة حرصت على مضامينها الخاصة، المتجاوبة مع تحدياتها، والمناسبة لطموحاتها، فالفكر الوطني في فرنسا يختلف عن الألماني، وصحيح أنَّ العديد من عناصره أسهمت فيها ثقافة تراكمت عبر الأيام، لكنَّ الأشدَّ تأثيرًا منها كان قد مرَّ عبر هندسة واعية، دفعت إلى انتقاء تاريخ، فكر، ثقافة، فنون في مقابل إزاحة غيرها، بما انعكس على سلوك الشعب وأفكاره، بما يتسق مع نظامه السياسي، وطبيعة نسيجه الاجتماعي.

فالهندسة الفكرية نظرية واعية تسلط الضوء على مضامين الفكر الوطني، دون أن تتركها لأن تمتلئ بالأفكار والآراء ارتجالًا، بحكم العفوية، فكم من أفكار قد تتسرب دون أن يعي بها الناس إلا حين يواجهون نتائجها، كأن تحوي في داخلها ما يثبط العزائم، ويعيق التقدّم، فلا بد من الوعي بها قبل بثها، بتقييمها لتكميل نقص أو استبدالها بأخرى مغمورة، أصلح منها، وفق نظرة إستراتيجية شاملة لمفهوم الهوية الوطنية، والثقافة الوطنية.

وقد خاضت الدول تحديات كبيرة في صياغة هويتها الوطنية، والتي اختلفت عناصرها لاختلاف الظروف والتحديات المصاحبة لها، فسعت لتمرير هويتها عبر هندسة واعية، على سبيل المثال: في القرن العشرين كان على دول مثل ألمانيا وإيطاليا ملاحقة الأفكار العنصرية كالنازية والفاشية، التي سبق أن ابتليت بها، بعد أن تلبست بلبوس الوطنية، وأودت بها إلى كوارث، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية كان لا بد من إقامة هوية وطنية جامعة بين السود بالبيض، بعد تفجّر العنف والاحتجاجات في الستينات، لإعادة الاعتبار للمواطنين غير البيض، ومواجهة تاريخ حافل بالعنصرية، وواجهت روسيا هذا التحدي حين سقط الاتحاد السوفيتي، فتحدّث الرئيس الروسي بوتين عن محاولة بعض الروس إحياء أفكار لينين، فقال: لا يمكن إحياؤها، إذ إنها تنتمي لمرحلة الثورة، لا الدولة، وأنَّ ما تحتاجه روسيا اليوم هو رجال الدولة، لا الثورة.

فالهندسة الفكرية تبحث في طريقة التأصيل للفكر الوطني، وما ينبغي ترشيحه من أفكار وآراء، بما يخدم الدولة والمجتمع. وعلى سبيل المثال: ضرب جنون الصحوة الجامح من قبلُ، فتسابق لغسل أدمغة الطلبة، وسعى لافتراس المصلين، عبر خطاب متشنّج كان فيه تقديم قضايا بعيدة ليجعلها فوق مصلحة السعودية، بحجة الاهتمام بشأن المسلمين، قبل أن يتنفس السعوديون الصعداء على تنظيم مجال الدعوة، بجهود جبارة تشكر عليها وزارة الشؤون الإسلامية.

فالهندسة الفكرية الوطنية تدفع إلى بحث ما يعزز الارتكاز على الجمع بين الامتداد الديني، والأولوية الوطنية، دون أن يحدث تناقض بينهما، وفي مثالنا المذكور يكون بتسليط الضوء على صلح الحديبية، حين جعل النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة من المسلمين في صلح مع قريش، وبقي صلح المسلمين في المدينة قائمًا رغم معاناة العديد من المسلمين في مكة، لإجبارهم على عبادة الأصنام، هذا الموقف يظهر أهمية أن يكون هذا الاتفاق عنصرًا أساسيًا في التربية الوطنية، والدينية، إذ تجتمع فيه أولوية مصلحة الوطن ويتمثل هنا في المدينة، مع وجود التعاطف الديني مع المضطهدين من المؤمنين في مكة، لكن هذا التعاطف، لم يكن له أن يطالب بشيء يتجاوز قرار القيادة السياسية، حين عقدت الاتفاق الذي جعل من مصلحة المدينة أولوية، وليس هذا إلا مجرد مثال، كحصاة في جبل الجهود الكبيرة التي يمكن أن تقدمها الهندسة الفكرية الوطنية.