السودان بات معزولا عن العالم، لغة الاقتتال أصبحت هي السائدة، صوت المدافع وهدير الطائرات هو المسموع على النطاق الواسع، والعقل والوطنية وأخوّة الدم ذهبت إلى غير رجعة، «حرب الجنرالات» هي العنوان العريض القادم من هناك، الجميع يعتمد سياسة صرف النظر عن الآخر، والمشهد في طريقة للتصعيد، والعالم بات يُدرك أن الأزمة في الخرطوم لم تعُد سياسية، صار وجهها أمنيًا بامتياز، وربما حربي، لا أحد يثق بأحد، ولا أذنٌ تسمع للرأي القادم من الخارج، والمُحصلة تؤكد أن الخاسر الأكبر، هو الإنسان السوداني.

يبدو أن الرؤية المستقبلية لما يحدث في السودان، تُعطي إيحاء موثوقا، أن السيناريو القادم غامض جدًا، فانسحاب البعثات الأممية والدولية، لا محالة، سينعكس على الدولة، إن كان هناك ما تبقى من دولة، فككتها السلطة السابقة، وجاءت لتكمل ذلك المشوار، الحرب الدائرة، والتي توصف بأنها حرب ضرورة مفروضة، لكنها مؤجلة؛ بعد الإطاحة بنظام البشير.

على الصعيد الإنساني البحت، بلا جدال فإن قادم الأيام، بالنظر إلى المعطيات اليومية، ستشهد أزمة نزوح، وأخرى غذائية، هربًا من حرب لن تضع أوزارها، دون فقدان السيطرة من أحد الأطراف، وقد يكون الطريق الأقرب هو «قوات الدعم السريع» على حساب استعادة القوات المسلحة، السيطرة على زمام الأمور ومفاصل ومؤسسات الدولة؛ وإنهاء حالة التمرد التي تحدث، وإلا فالمحصلة ستؤدي لتحول السودان إلى بؤرة جياع، يفتقدون الحد الأدنى من مفهوم الأمن، والمواطنة في بلدٍ أضحت مساحةً لنزاع «رفقاء السلاح».

أعتقد أن الصورة القاتمة لما يحدث هناك قد تفتح أبواب الخطر على مصراعيها -وهذا وفق ما أتصور قلق مبرر– ليصبح السودان مُغريًا للجماعات المتطرفة في أفريقيا، أو ربما «القاعدة، وداعش»، لتجد متنفسًا جديدًا لها، ومنصةً تنطلق من خلالها للانتشار في القارة السمراء.

المهم بعيدًا عن ذلك، فالواضح أن رغبة الاستئثار بالسلطة، من قبل المؤسسة العسكرية، التي انقلبت على بعضها، كان مرفوضًا على الصعيد الشعبي، ما خلق أرضيةً اجتماعية، قسمت القوات المسلحة على نفسها، وانقادت إلى المواجهة، وأحدث ذلك الإنحراف السياسي الحاصل، وانصرف الجميع عن رغبة السودانيين بحكمٍ مدني، يفرض قدرًا كبيرًا من التعايش بين أبناء الشعب، ويعمل على تحديد إطار نموذجٍ عادل، يضع في اعتباره قدرًا كبيرًا من الاستفادة من أخطاء تجربة إدارة عمر البشير «الديكتاتورية» رفقة عصابة حكمه وأسرته؛ ما قد ينقل الدولة إلى شكلٍ سياسيٍ جديد، يمكنه أن يكفل مساواةً بين أبناء الشعب، على حساب تصاعد بريق الذوات السياسية، ومن هو محسوبٌ عليهم.

في نظري أن السودان حتى وإن خرج من أزمته -وهذا مُستبعد على المدى القريب أو المتوسط– سيبقى يُعاني من عدة معضلات، أبرزها؛ انصرافٌ دولي، تأكد من الابتعاد العالمي عن دولة، فقدت مفهوم وفكرة الكيان السياسي الجامع، وتحولت إلى ثكنة اقتتال، يدور رحاها بين طرفين، كلٌ منهما يرى نفسه الزعيم الأوحد للبلاد، وهذا يتأكد من خلال كيل الاتهامات بالانقلاب والخيانة، المتبادل بينهما، ففكرة إجلاء عدد كبير من دول العالم لممثليها ورعاياها، يُعد ضربًا سياسيًا، تسبب به أطراف النزاع، لا بناء على رغبة تلك الدول بعدم وجودها على الأراضي السودانية.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الرؤية الدولية ستبقى على يقين بأن الخرطوم غير قادرة على تغيير مفهوم الفشل، الذي ورثه النظام السياسي –حتى وإن كان هزيلا– من نظام البشير، ما يشكل نقطة سوداء في جسد المنطقة، إن لم يكُن في الجسد العالمي الكبير.

والأهم من ذلك، أن يبرز من الإشارات الدولية الكبرى والواضحة، بأن الأزمة في السودان ليست طارئة، ويمكن أنت تذهب أدراج الرياح خلال فترة وجيزة أو مختصرة؛ إنما ستتجه إلى مستوى عميق، ومزيد من التصعيد، وهذا بالمُجمل، ليس في مصلحة الخرطوم، التي طالما ما علقت فشلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الخارج.

إن الحروب التي يعيشها ممثلو النزاع، سواء على الأرض، أو حتى على الصعيد الإعلامي، ستنعكس بدون أدنى شك على المجتمع السوداني، وستقود لخلط أوراقه فيما يتعلق برغبته السياسية، ويُضعف من طموحاته، التي تبدأ من بناء دولة تكون مظلةً للجميع، وقانون يحكم كافة الشرائح، بمن فيهم مرتدي البزة العسكرية، وإلا فالعاقبة فشلٌ على الفشل، وشلالٌ من الدماء، له أول بلا آخر.

والخوف في نهاية المطاف.. من ولادة سودانٌ مُتشرذم، ومجتمع مُفكك، وسجلات جديدة للهاربين، من دولةٍ تمتلك مُقدرات كبرى؛ أهمها.. «الإنسان»، الذي لن يملك إلا الفرار من الموت، وضجيج المدافع، ونيران المقاتلات، ورصاص بنادق «الإخوة الأعداء».