الخط الصاعد لانتصارات البشرية المتقدمة كان خطا متكسرا. فإلى جانب القطيعات الإيجابية، كانت هناك أيضا قطيعات سلبية، أو انتكاسات، كما يحلو لـ«بول بايروخ» أن يقول: في مقدمة هذه الانتكاسات تطور التقنية الحربية، وبالتالي ارتفاع الكلفة البشرية للحروب، فالحرب العالمية الأولى أوقعت 9 ملايين قتيل، والحرب العالمية الثانية 49 مليون قتيل. أما حرب محلية مثل الحرب الكورية فلم تقل كلفتها عن 3 ملايين قتيل وجريح، ولكن تطور التقنية الحربية لم يكن وبالا كله، فمع التسلح النووي غدت الحرب الشاملة بحكم المستحيلة، وبعد أن دفعت أوروبا ثمنا غاليا لحروبها، ابتداء بالحروب النابوليونية وانتهاء بحرب 1939 - 1945، فإنها تعرف منذ نصف قرن سلما دائما، ولكن بالمقابل جرى تصدير الحرب مع السلاح المتطور إلى العالم الثالث. وتشير الإحصائيات إلى أن 300 نزاع مسلح قد نشب في العالم الثالث بالنصف قرن الأخير، ودوما بسلاح مستورد من العالم المتقدم.

ومن الانتكاسات الأخرى التي منيت بها البشرية المتقدمة، في ظل الثورة الصناعية، صعود الأنظمة الاستبدادية الشمولية، لا سيما منها النظامان النازي والشيوعي بكلفتهما العالية من الضحايا البشرية: النازية التي تسببت في المجزرة الكبرى للحرب العالمية الثانية، فضلا عن الملايين من ضحايا اللاسامية، والشيوعية التي يشير «الكتاب الأسود»، الذي صدر عنها أخيرا، إلى أنها تسببت في موت 40 مليون إنسان.

وثمة رفيق درب سالب ثالث للثورة الصناعية، ألا وهو «الاستعمار المُعمم». صحيح أن الاستعمار بحد ذاته ظاهرة قديمة وسابقة على الثورة الصناعية، لكن ابتداء منها فحسب أخذ طابعا كونيا. وليس من قبيل الصدفة على كل حال أن يكون البلد الأول للثورة الصناعية، ونعني إنجلترا، قد غدا هو القوة الاستعمارية الرئيسية في العالم بإمبراطوريته الكولونيالية التي لا تغيب عنها الشمس. ولكن على الرغم من عملية نهب العالم الثالث، فإن الاستعمار لم يكن هو الآخر كله وبالا، فالاستعمار قد أرغم كثرة من المجتمعات التقليدية في العالم الثالث على تسريع دخولها زمن الحداثة. كما أن بعض بؤر الاستعمار الاستيطاني الأوروبي خارج أوروبا، مثل الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، تحوّلت إلى مراكز متقدمة.

ذلك للحضارة الحديثة، وإذا كان الاستعمار المرتبط بالثورة الصناعية يتبدى مع ذلك شديد المقت، فهذا لأنه استعمار معروف ومكتوب، على حين أن تاريخ الاستعمار في الحضارات القديمة السابقة على الثورة الصناعية لم يكتب بعد، بل لم يدخل في بعض الحالات حتى في مجال المفكر فيه.

ودون أن يكون في الإمكان حصر جميع الانتكاسات التي رافقت انتصارات البشرية في ظل الثورة الصناعية، وفي جملتها عذابات الطبقة العاملة وتلوث الكرة الأرضية، لا بد من وقفة عند آخر قطيعة كبيرة استحدثتها الثورة الصناعية، وهي القطيعة على صعيد الكرة الأرضية ككل بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، أو بين العالم الصناعي المتقدم وما اصطلح على تسميته «العالم الثالث المتخلف».

حتى 1700 م لم يكن ثمة من فارق يذكر في مستوى الحياة بين وسائر العالم، بل من المرجح أن بلدا مثل الصين كان يتقدم على البلد الذي سيكون مهد الثورة الصناعية في أوروبا، أي إنجلترا. وإجمالا، لم يكن الفارق بين أغنى مناطق العالم وأفقرها يتعدى من 20 إلى 30%، فالحفرة التي بدأت بالانحفار بتؤدة في المراحل الأولى من الثورة الصناعية بين البلدان التي أقلعت باتجاه هذه الثورة، والبلدان التي بقيت متخلفة عنها، تحوّلت بعد قرنين من الزمن إلى هوة.

العالم الثالث سيبقى هو العالم الثالث ما دامت كفة الانتكاسات ترجح فيه كفة الانتصارات، فالتقدم، من حيث هو تجاوز واع ومراد للمعطى الطبيعي، يقبل التعريف بأنه فن صناعة الانتصارات.

1995*

* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016»