هل بيروت مجرد اسم، أم هي واقعٌ بكيانٍ خارج تأملات المبدعين أو الباحثين؟ فحين يحضر اسمها تتقافز الأقلام للحديث عن ذاكرات متعددة، كُلٌ يحكي تجربةً لها خصوصيتها المرتبطة ببيروت. وكأن لا جامعَ بين الذاكرات إلا الاسم، وهذا ما لا أجده في العواصم العربية الأخرى، ومنها الرياض، حيث أجد ذاكرة شبه جماعية لتشكيل واقعيتها، أو العكس: واقعيتها التي شكلت الذاكرة. وسؤالي عن بيروت سؤال غريب، يحضر في ذهني لأسباب متعددة، تقوم على سؤال: هل يسعى الإنسان للبحث عن مدينة لا يريد منها إلا اسمها، أما واقعها فيشكله كما يشاء؟. لهذا لما تأملتُ ما رصده محمود درويش عن بيروت، وجدتُها مدينة تطفو على سطح الذاكرة، لا عمق لها. مع أنَّ بإمكان أي إنسان الإمساك بكتاب تاريخ ليصرخ: «هذا هو تاريخ بيروت واضح لا لبس فيه».

لكن في واقع الأمر حين نتفكر في بيروت نتذكر ما يُروى في كتب النحاة من أنَّ الفرّاء- وهو أحد النحاة العرب القدماء- قال ذات يوم: «أموتُ وفي نفسي شيء من (حتّى)». إذ هي قد ترفع ما بعدها، وقد تنصبه، وقد تجره. لهذا قد يموت المتأملون وفي أنفسهم شيء من (بيروت). فماذا تصنع بيروت بمن يُفكر بها؟، ألهذا انتهى المطافُ بباحثٍ لبناني ليقول بأنَّ اللبنانيين محكومون بالتسوية والمساومة؟! متسائلًا: «هل هو وطن نهائي؟» ثم بعد ما ذكره درويش، وجدتُ ما رصدته اللبنانية خالدة سعيد في كتابها (يوتيوبيا المدينة المثقفة)، ما يؤكد ما تساءلت عنه. فرجعتُ إلى سؤالي القديم، أتأمله مبتسمًا، ومتعجبًا.

بإمكاني أن أطرح رؤية درويش كما تظهر لي كالتالي: إنَّ بيروت تتشكل -أولا-من خلال جريدة؛ إذ كانت بيروت محط الصحف الشرقية والغربية التي يتثقف بواسطتها العرب عن المدن الأخرى. وهذه مفارقة؛ إذ في الحرب الأهلية اللبنانية، كانت الحقيقة هي ما يُقرأ في الصحف، أما ما لم يدون في الجريدة فليس بحقيقة. ذاك ما دوّنه درويش، تهكّمًا على واقع الحال، الذي تحول إلى حقيقة مؤلمة. لهذا «قام باحث في الشؤون الإسرائيلية بتكذيب الشائعات القائلة إن بيروت محاصرة؛ لأنه لا يقرأ الحقيقة إلا إذا كانت مكتوبة باللغة العبرية». وثانيًا تتشكَّل بيروت: من خلال مذياع، والمذياع هو بيان السلطة في واقعية بيروت، أيام الحرب، التي امتدت لتعطي بيروت شكلها الذي نراه لاحقا. يصحو الإنسان في بيروت -أيام الحرب- من نومه صباحًا، فيفتح المذياع ليتأكد أنه لم يُعلِن وفاته، لأنه إن أعلن المذياع وفاته، يعني ذلك أن بيروت أعلنت وفاته، ومهما حاول إثبات عكس ذلك، فلن يُفيد. وإذا كان الأول والثاني هما لغة ذاكرة المنتصر المؤقت، فإنَّ تشكّل بيروت الثالث هو من خلال إذاعة رائحة القهوة المصنوعة بيديْ صاحب الذاكرة الخاصة، وهذه ذاكرة العشاق. أليس من المفارقة أن تكون الرائحة هي الدليل الوحيد على الوجود، وهي علامة النهار ومبتدأه؟ هل هذا يجعلنا نفكر ببيروت كرائحة؟ وتحديدا رائحة قهوة؟ والقهوة لها ذاكرة بلا مكان.

إنَّ ما يلمُّ شتات هذه الوسائل لمعرفة بيروت، هو الاسم الذي يَهب ساكنيه أسماءً لوطنٍ مختلف؛ لأنَّ بيروت -هنا- خيمةٌ لاحتواء المعنى التائه، والخيمة تحيل على ما هو مؤقت؛ إما بدوًا رحلا، أو لاجئين من آثار الحروب، أو لحظة تَخَلُّص أهل الحاضرة من هبوب المدنيَّة.

ومن معاني احتواء المعنى التائه ما عنتْه - بشكلٍ تائه أيضًا - خالدة سعيد في كتابها (يوتوبيا المثقفة) حيث بيروت كانت مجرد يوتوبيا لمثقفين، لا جغرافيا لهم، ولا دولة؛ سواء في نهضتها الأولى في القرن التاسع عشر، أو نهضتها الثانية في القرن العشرين، أي أنَّ نهضة البيروتيين أطلقها أفرادٌ أصحاب معرفة ورؤيا بمبادرات ارتجالية ومسؤوليات خاصّة، بعكس مصر التي تحققت نهضتها -كما تقول خالدة- بفضل جهود مبرمجة وخطط مدروسة قامت بها الدولة في مختلف الحقول. ربما في هذا السياق قال عمر فرّوخ: «من حسن حظي أن نشأتُ في بيت فيه علم وفيه مكتبة، على قلة مثل هذا البيت في بيروت خاصّة، وقديما قالوا: بيروت مقبرة العلماء».

بعد هذا: هل لنا أن نتفكّر في بيروت ما بعد الحرب الأهلية؟ بأيّ معنى تشكّلت من خلال اسمها؟ وبأي معنى تشكّلت ذاكرةُ أهلها التي وقعت بين فكّين: أحدهما ذاكرة الوطن والألفة والاستقرار، والآخر: صعوبة الغربة لو فَكّر أحدهم بالخروج خارج حدود ما يعرفه ويتذكره ويألفه ويُسعِفه؟ وبأي معنى تشكلّت مفاهيم الإعلام الذي نشأ من خلال أصحابها، حتى ذلك الإعلام الذي نشأ برأس مالٍ غير بيروتّي؟، حتى القنوات الشهيرة التي موّلها رأس مال سعودي؟ كيف نُفكّر بها بصورة سطحية دون استحضار ذلك المقهى؟ دون استحضار أنَّ مؤسسيها في الحقيقة هم بيروتيون لا سعوديون؟ وهذا الاستحضار لا يحلّه سعودة وظائف طارئة، تنشأ من خلال مطالبات في قنوات التواصل الاجتماعي؟ تلك القنوات التي لم تعِ أنها غير حقيقية في واقع غدت الحقيقة فيه حقائق متعددة بقدر سيلان الواقع؟ يذكر أحد اليساريين البيروتيين على قناة شهيرة وهو مُستاء: «إن خُيّرنا سنختار أمريكا-مع عدائنا لها كيساريين- لا إيران». وهذه مفارقة يساريّة؛، فماذا عملت إيرانُ -ما بعد الحرب الأهلية- في اسم (بيروت) حتى يقول ذلك اليساري ما قال؟ وحتى يرضى بأمريكا؟ هل هذا يُعيدنا إلى المقهى البيروتي، الذي نستحضره ونحن نفكر في تاريخ المنطقة العربية؟

التفاتة:

امتدت فلسطينُ كخيمةٍ، فوقها غيمة، حتى غنّى الشاعر (الفلسطيني) محمود درويش: «بيروت خيمتنا الأخيرة». وحتى أنهى الشاعر (اللبناني) خليل حاوي حياتَه انتحارًا، بعد اجتياح الإسرائيليين لبيروت.

التفاتة عن الالتفاتة:

هل نتذكر هنا قول فيروز: «أسامينا! شو تعبوا أهالينا...!»؟

يقول درويش في قصيدته (بيروت): «من مطر على البحر اكتشفنا الاسم».

فماذا يقف خلف اسم بيروت الذي أتعب الناظرَ بريقُه؟