إننا نعرف في الجزائر، وفي البلاد الإسلامية الأخرى، ذلك الوجه المألوف، وهو يشق طريقه بين الجماهير في أسواق المدينة وبطحاتها، يوزع مجانا ماء غدقا يسكبه من قربة يحملها بجنبه.. يمر وهو يكرر كلماته المعروفة لدى أجيال المسلمين: «في سبيل الله.. السبيل!»..إننا نعرف هذا الوجه الأصيل بين وجوه أخرى.

كذلك المؤذن، وهو يوزع في الواقع زهده، وطمأنينة عقيدته وروحانيته العميقة في الأسواق، فكل حضارة تصنع هكذا نماذج اجتماعية، ووجوها تقليدية تتعاقب في الأجيال، تضع عليها طابعها، وترسم على ملامحها ما يعبر عن رسالتها الخاصة، فالحضارة الغربية، بوصفها شغالة ومهنية، قد صنعت النموذج الاجتماعي المطبوع بما نسميه «مثاليتها»، أي المطبوع بالعبقرية التي تتمثل فيما يطلق عليه بالإنجليزية «الشغل» (Business)، وبالحكمة التي يعبر عنها هذا الرجل، فيقول: «إن الوقت درهم»، ومن الطبيعي أن يكون هذا النموذج متنوعا حسب الحاجة في مجتمع اعتنى أكثر من غيره بالتخصص، وتوزيع العمل.

إننا لا نجد هذا النموذج متمثلا فحسب في البقال، وفي السمسار الذى يعرض العمارات للبيع، وفي بائع الحديد القديم، وفي بائع المخلفات.. أي في كل بائع لشيء من الأشياء، بل نجده متمثلا في البائع الذي يبيع «لا شيء»، أي في البائع الذي لا يسلمك شيئا مقابل نقودك.

إنك تعرف، لا شك، إذا كنت من سكان مدينة كبيرة في الغرب ذلك الزائر الذي يدق على بابك، ليعرض عليك إما «مصاصات الغبار» التي تمتص الغبار من السجاد، وإما آلة تكبير الصور العائلية، فيقول أحدهما: «يا أستاذ.. إن الآلة التي أعرضها على حضرتكم لازمة لصحة بيتكم، لأنها تكفيكم شر الميكروبات الموجودة في الغبار».

أما الثاني فيقول: «يا سيدي.. إن دارنا تمكنكم مجانا من حفظ ذكريات العائلة من التلف.. يجب أن تكبروا صورا، كي تحتفظوا بها».

إنك تستمع لهذا، وتبتسم طبعا لهذه العبارات البريئة، حيث ترى المصلحة الشخصية فيها، وهي تحاول أن تختفي وراء مصلحتك، ولكن مهما يكن في موقف هذين الزائرين من انتفاعية بسيطة متخفية، فإنهما على كل حال يعرضان عليك شيئا معينا مقابل نقودك.

ولكن كيف تحكم على من يأتي إلى بابك كي يبيع لك الحضارة؟!.. إن بعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها إلا كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما تهب الخلد للأرواح الطاهرة، وتضع الخير في قلوب الأبرار، فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى، ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من «شنطته» أو من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها.

إن الحضارة ليست شيئا يأتي به سائح في حقيبته لبلد متخلف، كما يأتي بائع الملبوسات البالية.. إن ابن المستعمرات هو الذي يذهب إلى الحضارة، إلى مصادرها البعيدة، وقبل كل شيء إلى مصادرها الأقرب من أصالته، وليست الحضارة في نية المستعمر، ولو صحت هذه النية، بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله كل يوم الشعب الذي يريد التحضر، وفي إرادة هذا الشعب إزاء الحضارة، أي عندما يضع في كل تفصيل من حياته مضمونه الأخلاقي والجمالي والعملي، حتى يكون هذا التفصيل كأنه خطوة نحو التقدم.

وفي هذا المضمون ما تضعه فيه عبقرية ابن المستعمرات، هندوسيا كان أو بوذيا أو مسلما، نجد ما تضعه فيه أيضا العبقرية الغربية، لأن الحضارة الغربية ستبقي مثل ما سبقها من الحضارات مرحلة في تاريخ الإنسانية، وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة فاصلة بمقتضى ارتباطها بعصر الذرة، فإن الإنسانية سوف لا تدين بالتالي بحضارتها إلى «نية» الغرب أو إلى عبقريته، بل تدين إلى العناية الإلهية التي تضع مصيرها تحت قوانين سماوية تسير تاريخها.

1951*

* كاتب جزائري «1905 - 1973»