وتبدأ رحلة هيكل من الإسكندرية، حيث البحر الأبيض المتوسط الذي يصل شماله بجنوبه في نوع من تعارض التقدم والتخلف الذي هو الدافع الأول للرحلة، فالرحلة بقصد التعلم واكتساب المزيد من التقدم، ومن ثم استبدال التقدم بالتخلف وبدايتها البحر الذي يتوسط ما بين عالمين، في لحظة تتقاسمها دوافع متنافرة تجمع الكلام والضحك والبكاء ووصايا الآباء والإخوان وضجة الحمالين وأصوات الصائحين والآلات الرافعة مخلوطة بما يترك الحواس والقلب والنفس في حيرة واندهاش.
والاستهلال الأول لحركة البداية هو تحرك الباخرة من الماء الهادئ للميناء الذي تودعه إلى «الخضم الهائل» الذي ينتظرها في الأفق الممتد الذي تهبط فيه الشمس إلى مغيبها كي تودع «الديار العزيزة الغالية».. متوغلة في اللجة الهائلة التي تفصل ما بين الأرض التي يسعى إليها العقل للتعلم والأرض التي يسكن حبها في القلب طوال الحياة.
ولا يوازي الحيرة التي ينطقها مشهد البداية وتوزعها ما بين الممكنات المتعارضة، سوى خلو المشهد كله من حضور المرأة التي ينطق غيابها بإلحاحها على الوعي الذي يستهل ارتحاله فلا يغيب عنه ما تلاحظه العين وسط لجة المسافرين و المودعين من أن الجميع رجالاً وشباناً لا وجود للمرأة بينهم. لا في المسافرين ولا في المودعين، وذلك على نحو يبدو معه الوجود الذكوري المنفرد بعلاقات الحضور، لافتا الانتباه إلى نقيضه الواقع على مستوى علاقات الغياب ويتربص هذا النقيض بتتابع السرد في الرحلة ليندفع مهيمنا، دالا، فيما بعد عندما تحين الفرصة لظهوره كي يظهر كاشفاً عن قمع غيابه مقتحماً التتابع بعد المشهد الافتتاحي الذي يدل على المسكوت عنه، ويرهص بتفجر تعارضات الممنوع والمكبوت والمقموع في علاقة الأنا بالآخر، خصوصاً تتركز هذه العلاقة حول المرأة وصلة المرأة الأوروبية بالرجل الشرقي تحديداً، وذلك على نحو يدل على الوجه الأول من تعارض الشمال والجنوب في الوعي المرتحل من فضاء التخلف إلى فضاء التقدم.
ولذلك تبدو المرأة كما لو كانت فاتحة أوروبا في مذكرات هيكل، وأولى العلامات الدالة على الحضور الأوروبي المتقدم. وبقدر ما يبدو لقاؤها بمثابة اللحن الاستهلالي في فعل التعرف الذي هو فعل الرحلة، حيث الأنا التي تجتلي وعيها في علاقتها بمستحدثات المكان، تبدو علاقة المرأة الأوروبية بمكانها أقرب إلى علاقة البعضية التي ينطوي عليها المجاز المرسل وهي العلاقة التي يدل فيها الجزء على الكل، ويختزل ملامحه الاستهلالية إلى الدرجة التي تدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد، فتغدو المرأة الأوروبية الوجه الأول من الغرب المتقدم في رحلة هيكل التي تحكيها مذكرات شبابه، خصوصاً في قدرة تلك المرأة (الأخرى) على إثارة الدهشة المصحوبة بالمشاعر المتضاربة للإعجاب والانجذاب والإقبال والخوف والحذر والتردد، والنتيجة هي تحول إلحاح المرأة الأوروبية والأمريكية في حالة دالة على السياقات المختلفة من المذكرات إلى نوع من الحضور المستفز الذي يبتعث نقيضه الغائب، وعلى نحو مباشر وغير مباشر، فيفرض على المؤلف في المذكرات وعلى القارئ بالقدر نفسه، مقارنة نماذج المرأة الأوروبية في المكان المرتحل إليه بنماذج المرأة الشرقية في المكان المرتحل عنه.
هكذا، تكتسب المرأة الأوروبية صفة الغواية في مذكرات هيكل. وتغدو غوايتها الوجه الأول من غواية الحضارة الأوروبية كلها، إذ يتجسد عموم حضور هذه الحضارة في خصوص حضور المرأة التي تمثلها وتدل عليها، كأنها في إلحاحها الدال على المذكرات مجلى آخر لحواء التي تجدد غواية أدم وتغريه باقتطاف ثمرات المعرفة المحرمة، كي تنتزعه من عالمه الآمن لتلقي به في عالم ملتبس، مغاير مقلق محير من الغوايات الخطرة والمغرية في الوقت نفسه. ولذلك تتبادل المرأة الأوروبية وحضارتها التي ترمز إليها المكانة والموضع في مذكرات هيكل، فهذه هي تلك في وعي الحداثة الذي يغدو أول وعي التحديث أو العكس من منظور التعامل الإنساني الحميم مع الحضارة الأوروبية الحديثة، تلك التي يبدأ وعيها النوعي في مذكرات هيكل بالوعي بحضور المرأة وعلاقتها المكافئة والمساوية لعلاقة الرجل بها، ضمن منظومة جديدة من القيم والأفكار والمبادئ والتصورات منظومة لم يدخلها وعي هيكل في رحلته إلا بعد مجموعة من الأعراف المهيئة، أي بعد اجتياز ما يشبه البرزخ الذي ينتقل بواسطته الوعي من حال معرفي إلى حال مغاير، يحدث ذلك في القطار الذي كان يحمل ركابه من ميناء مرسيليا في الجنوب الفرنسي، حيث انتهت رحلة السفينة التي حملت هيكل من جنوب البحر الأبيض المتوسط في ميناء الإسكندرية إلى شماله في ميناء مرسيليا، لتبدأ رحلته البرية من جنوب فرنسا إلى شمالها بواسطة القطار الذي يكمل الرحلة إلى هدفها الرئيسي باريس، فترينة الدنيا، على نحو ما وصفها توفيق الحكيم فيما بعد.
1995*
* ناقد وأكاديمي مصري «1944 - 2021»