يقول الفيلسوف الألماني نيتشه (1844 -1900) عن نقد الأخلاق: (إن الناقد يجب أن يكون كالسائح الذي يغادر المدينة حتى يستطيع رؤية مدى ارتفاع الأبراج)، فلا يمكن لشخص غارق في فكرة ما أن ينتقدها سواء ذهب في الفكرة يمينًا أو يسارًا.

انتشر مؤخرًا في وسائل التواصل الاجتماعي خطاب متطرف يستهدف الأديان بالسخرية والازدراء، يزعم أصحاب هذا الخطاب أنهم أرباب التنوير وتحرير المجتمعات، والملاحظ أن غالبيتهم حدثاء في العمر والتجارب، متحمسون لإثبات وجهة نظر لم يصنعوها، بل لم يستوعبوا أبعادها وتاريخها، فتراهم يناضلون لإعلان توجهاتهم الفكرية كما لو أنهم أصحاب رسالة، مع أن عددًا منهم ربما لم يتم دراسته الجامعية بعد، ثم يقدمون أنفسهم كتيار لا ديني، ويحرضون الآخرين على اتباع نهجهم، ويذكرنا هذا بالنماذج السياسية الأيديولوجية النمطية مع فارق المحتوى.

مبدئيًا.. الشك أول الاستنارة، ولا اعتراض على أن يعمل الإنسان عقله في السائد من حوله، كثيرون أولئك الذين ذهبوا في رحلة البحث عن الذات وتساءلوا عن معنى الوجود، من هؤلاء الباحثين جاء الأنبياء والمعلمون والفلاسفة، لكننا نفهم تمامًا أن الوعي الذي يتشكل لدى الإنسان نتاج البحث والتأمل واستخدام المقاربات المنطقية، مختلف جدًا عن التنظير الأجوف الذي يمارسه محدثو التفكير في وسائل التواصل الاجتماعي.

الإدراك لا يتجلى لشخص يستعير أفكار الآخرين من مقال أدبي أو نظرية فلسفية، ثم يستيقظ في اليوم التالي وقد راودته أحلام الزعامة، فيبدأ بإطلاق الشعارات والبحث عن المريدين والمقلدين.

لا يمكن لشخص أن يصدر أحكامًا موضوعية بمجرد انتقاله من اليمين إلى اليسار، ولا يمكن لأي فكرة أن تكون عميقة دون أن يتبنى صاحبها روحًا محايدة خلال رحلته، كما لا يوجد أي فرق يذكر بين متدين متطرف يبذل جهده في تكفير الآخر وإقصائه، وبين ملحد مستهزئ يسخر وقته لمصادمة المؤمنين وتخريب مجتمعاتهم، في الواقع كلاهما متحيز يعمل خارج ذاته ويستمد موقفه الفكري من توجه الآخر لا من إدراكه المحض لجوهر الفكرة وحتمية مآلاتها.

لا شك بأن بنية الحياد مستعصية إلا على عقل متسامي صاحب تجربة فكرية واضحة المعالم، فإذا أردت أن تكون مفكرًا مخلصًا للمعرفة فعليك أولا مغادرة الفكرة ثم التريث في البحث والتحلي بحكمة الصمت الأزلية، وأن يكون حديثك لذاتك العميقة النائية أكثر من حديثك مع العالم، وأن تتفهم أن المجتمعات الإنسانية تطمئن للتقاليد المستقرة فلا تقلل من احترامها.

إن أي فعل خارج هذا التصور لا يمكن أن يكون فكريًا، بل هو سياسي، وإن اتخذ شعارات التنوير والحداثة.. وإن ما يحدث اليوم من استغلال للمراهقين فكريًا للتحريض على المجتمع وكيان الأسرة وسلامة الأوطان هو مشروع سياسي واضح ينبغي علينا كشفه والتعامل معه بخبرتنا كمجتمع استوعب دروس الشعارات الزائفة وعانى طويلا من آثارها.