أعود بين حين وآخر إلى الكتب التي اشتريتها أثناء دراستي الجامعية، أو التي وزعتها الجامعة حين كانت توزع علينا الكتب مجانًا، وفي المرة الأخيرة لفت نظري أن هناك عدة كتب عن «الغزو الفكري»؛ لتذكرني بفكرة سوزان لانغر بأن بعض الأفكار في مرحلة ما تفرض نفسها على المشهد الفكري والثقافي بقوة هائلة، وهي أفكار تبدو لأفراد تلك المرحلة على أنها تحل المشكلات الأساسية، وتوضح القضايا الغامضة، يرحب الغالبية بتلك الأفكار.

وفي هذا السياق يمكن أن نرى «الغزو الفكري» على أنه المفهوم الذي لجأت إليه التيارات التقليدية باعتباره منظومة من الأفكار والصيغ لتبرير وقوفها ضد التحديثين الاجتماعي والثقافي، ومفاد المفهوم أن هناك حرب أفكار يشنها الغرب ويجب التصدي لها، وبهذا أصبح التحديث الاجتماعي والثقافي مجرد فكرة تغريبية، والهدف هو أن يبقى المجتمع كما هو من دون تطوير أو تغيير.

كان الغزو الفكري أكبر مشجع على إصدار كتب ساذجة وسطحية لمن يؤلف للحفاظ على «الأمة» من الغزو الفكري، وحائلة بين إصدار كتب رصينة وهادئة كما ينبغي، وإذا وجب أن أضع مجال نشر مثل هذه الكتب في الاعتبار؛ فقد طُبعت بكميات كبيرة، وعلى نفقة مؤسسات خيرية أو رجال أعمال، أو دور نشر متخصصة في هذه الكتب التي سموها «الكتاب الإسلامي» يوزع في الغالب مجانًا، وهي في المجمل تركز ضمنيًا على علاقة الكاتب بجمهور مستهلك لهذه الكتب، كالشباب والمرأة، وعادة ما تكون موجودة في غرف انتظار المرضى في مستشفى، أو انتظار زبائن في محل حلاقة، أو مراجعين في مؤسسة حكومية، وهي ليست أكثر من سجالات مع المخالف لما يرى مؤلفوها، وأحكام أخلاقية، وتناول مفاهيم حديثة في إطار الرفض بعد أن يفرغوها من محتواها المعرفي ويحولوها إلى تهم جاهزة؛ فالحداثة مثلا ليست أكثر من غزو فكري، والحداثيون على علاقة بجهات أجنبية، وهم شوكة في خاصرة المجتمع المسلم، وبهذا فعلاقة مثل هذه الكتب بقرائها هي علاقة تحذير من أن الكتاب الذين يدسون في العسل.

لقد عرف إليوت الثقافة بأنها «ما يجعل الحياة تستحق أن تحيا»، وهي بالفعل كذلك، لكن هؤلاء يرون أن الثقافة هي ما تجعل الآخرة تستحق أن تحيا؛ لذلك فالثقافة التي تعرضها تلك الكتب هي ثقافة الموت، وحتى الكتب التي تناقش قضية أدبية لا تتوقف عن التذكير بالآخرة بين حين وآخر، وأن اليوم عمل وغدًا حساب، وأن ما يدخل في الحساب هو تضييع الوقت في قراءة الأدب الحداثي بكل أنواعه كالشعر والقصة والرواية، وأن تأليفه الكتاب نصرة للدين، يرجو أن يثاب عليه يوم الحساب.

بطبيعة الحال لو أن هؤلاء المؤلفون يؤمنون بهذه الأفكار، من دون أن يعتقدوا أنها الحقيقة الواحدة والوحيدة لما ناقشتهم في ذلك، ما أناقشه هنا هو أنهم يريدون أن يفرضوا ذلك على الآخرين، فهم الذين يمتلكون الحقيقة وما على الآخرين إلا أن يذعنوا لها، لا يرى هؤلاء أي مجال لتعدد الآراء واختلافها، بل يرون أن هناك رأيًا واحدًا هو الحق، وبقية الآراء غير محقة، وهي زائفة وغير صحيحة.

إن أي فهم عميق للثقافة يقتضي أن تُفهم بالطريقة التي تعمل بها، وطريقة الثقافية بالضرورة عملية ديموقراطية حتى في المجتمعات غير الديموقراطية (إدوارد سعيد)؛ فلكي يصل أفراد المجتمع إلى ما يعتبرونه ثقافة، فلابد من أن ينتقوا عناصر ثقافية تصبح جزءًا من الثقافة المعتمدة في المجتمع، تخضع هذه العناصر إلى مراجعة دائمة، يختفي منها عناصر، ويضاف إليها عناصر أخرى، والمجتمع ليس ربة منزل كما قال هيجل يحتفظ أفراده بالثقافة التي ورثوها عن سلفهم، بل يضيفون إليها، ويزيلون منها، فالتراث يسقط كل عابر، وكذلك تفعل الثقافة، فهي عمل كل الأجيال السالفة بعد أن تسقط منها العابر والعرضي والطارئ، وبعد أن تتوافق الأجيال تلو الأجيال على ما يمكن أن يعدوه ثقافة تميزهم، وتميز مجتمعهم.

يوجد في كل ثقافة أفكار كثيرة عن الحق والخير والشر والجمال؛ وهي قيم ربما توجد في مجتمع ولا توجد في مجتمع آخر، فضلا عن ذلك فثقافة المجتمع قد تحدد بين حين وآخر العدو والصديق، والحق كما يقول إليوت فيما يتعلق بالثقافة فالشيء الوحيد الذي نثق من الزمن بإحداثه هو الخسارة، أما الكسب أو الخسارة أو التعويض، فإنه يوشك أن يكون متصورًا دائمًا، إلا أنه غير متيقن أبدًا، لا يمكن أن نهمل كلمة (الخسارة) حين نتحدث عن الصراع الثقافي، فالخسارة تحدث عند المحافظين والتقليديين حين يتخلى الناس عن أنماط التفكير القديمة، والقناعات والعادات والأعراف، ويحلون محلها أنماط تفكير جديدة.

تجارب المجتمعات القديمة على تخوم الحداثة التفكك والقلق والانهيار، وإعادة البناء، وهي خسارة فعلا عند التقليديين والمحافظين، خصوصًا في المجتمعات التي يكون فيها الدين محددًا أساسيًا، يسمي المفكر الإيراني شايغان هذه المرحلة بيْن بين، أي القيم التقليدية التي تأفل، والقيم الأخرى التي لم تتبلور بعد، وهي مرحلة خطرة في حياة المجتمعات، حيث يبرز فيها ما يسميه شايقان الوحش الفرنكشتانية، لقد رأى التقليديون أن الثقافة التقليدية تتفكك، واعتقدوا أن ما تفكك هو الثقافة التي يجب أن تتحدث باسم المجتمع، وهي التي تعبر عن إرادة وعواطف أفراد المجتمع، ظنوا أن ما تفكك هو ثقافة المجتمع الأساسية، والمرجعيات التي يستقي منها الفرد في المجتمع السعودي ما ينبغي أن يقال، وما لا ينبغي أن يقال.