أصبحت القضية الفلسطينية تُختصر في قول أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية «لسنا طرفًا فيما يجري في غزة من رد على العدوان الإسرائيلي» وإعلان فصائل القطاع أن «قتالنا مستمر مهما كلفنا من ثمن». وأصبح الموقف العربي يُختزل في الدور المصري لترتيب وقفٍ لإطلاق النار، بمشاركة أردنية أو قطرية أو غيرها أحيانًا. ومع انعدام وسائل الضغط على إسرائيل، حين تكون واشنطن غير حاسمة والدول الأوروبية غير مؤثرة كما باتت دائمًا، يقع الضغط على «فصائل المقاومة» كي توافق على هدنة «بشروط العدو» حتى عندما يكون العدو هو مَن بادر إلى العدوان، كما حصل في القصف الأخير الذي استهدف اصطياد قادة «حركة الجهاد الإسلامي» وقتلهم في منازلهم واحدًا تلو الآخر مع أفراد عائلاتهم.

عادةً لا تعرض إسرائيل شيئًا غير «الهدوء مقابل الهدوء» وحين تطرح الفصائل شروطًا للهدنة، بغية تحقيق مكسبٍ ما أو ضبط «قواعد الاشتباك»، فإنها تُرفض فيتواصل التصعيد، وإذا حصلت هدنة وانطلق بعدها صاروخ واحد من غزة تصر إسرائيل على الرد وعلى أن تكون آخر من يقصف من دون رد غزي، لتوحي بذلك أن «الردع» في يدها. ومع أن الهدنة الجديدة نصت على أن وقف إطلاق النار يشمل وقف استهداف المدنيين وهدم المنازل «وأيضًا استهداف الأفراد»، وقد عنت العبارة الأخيرة بالنسبة إلى «الجهاد» «تعهدًا بوقف اغتيالات المجاهدين» (وهو الشرط الذي أخّر الهدنة) إلا أن إسرائيل وافقت على النص ولا تعتبره تعهدًا، فهي تمارس الاغتيالات على الدوام، وقد جعلتها زمر المتطرفين في حكوماتها ترخيصًا بـ «الإعدامات الميدانية».

هاجس «مَن يملك الردع؟» كان ولا يزال حاضرًا في نقاش الطبقة السياسية الإسرائيلية، وهي تعتبر أنها ردعت/ طوّعت المنطقة العربية وأجبرتها على التخلي عن «خيار الحرب» ثم سحبت منها امتياز المشاركة في إدارة «خيار السلام»، ثم تلاعبت مع الولايات المتحدة بما سمّي «سلام أوسلو» لتفرض الاستعاضة عنه باتفاقات تطبيع مع العرب، ولا تزال تلحّ على واشنطن لتوسيع رقعة هذا التطبيع، على الرغم من أن ممارساتها حيال الشعب الفلسطيني لا تشجّع عليه.

في الأثناء كانت أمعنت في تهميش السلطة الفلسطينية، أي أنها ردعتها ودفعتها إلى خيارين بائسين: إما أن تحلّ نفسها وتذهب إلى المجهول، أو تستمرّ من دون أي فاعلية أو تأثير فيما يحصل للقضية الفلسطينية. بل إن انسحاب إسرائيل من قطاع غزّة (2005)، بلا أي تنسيق مع السلطة، كان نواة انقسام فلسطيني- فلسطيني توقعته وغذته وعمقته وشجعت فصائل القطاع على تكريسه بسلطة منفصلة عن «سلطة رام الله» المعترف بها دوليًا/ وغير المعترف بها عمليًا من جانب إسرائيل.

لكن العمل الإسرائيلي المبرمج أولًا لإبقاء الضفة الغربية تحت الاحتلال وجعلها مناطق آيلة للضمّ، وأيضًا لإبقاء القطاع تحت الحصار وسلطة الفصائل وخارج القانون الدولي، وكذلك لوقف أي تفاوض بحجة أن ليس هناك «شريك فلسطيني للسلام».. كل ذلك دفع ويدفع الفلسطينيين إلى استعادة خيار المقاومة سواء كانوا منخرطين في الفصائل أو متعاطفين معها أو حتى غير مطمئنّين إلى أهدافها وارتباطاتها، إذ يكفي أن انتهاجها الانقسام قصم ظهر المشروع الوطني الفلسطيني.

عمليًا كانت إسرائيل هي التي قدمت قطاع غزة إلى إيران، التي تلقفته مرحبة وجاهزة للاستثمار في فصائله، آخذة في الاعتبار أن إسرائيل قتلت «اتفاق أوسلو» نصًا وروحًا، ولم يعد هناك أي «سلام» يُرتجى منه أو يُبنى عليه. وخلال ستة عشر عامًا، منذ انقلاب «حماس» على السلطة (2007)، استطاعت إيران أن تجعل من القطاع «ساحة مقاومة»، وأن تفرض أجندة نفوذها عليه، باندفاع فصائلي وبثمن باهظ يدفعه القطاع وأهله، من دون أي أفق مستقبلي. ومع انكفاء «سلطة رام الله» وتخبطها بين العجز العربي والتواطؤ الإسرائيلي- الأمريكي راح «خط المقاومة» يصنع بنيته المسلحة في الضفة الغربية بعلمٍ من الإسرائيليين وبمراوحتهم بين توجهين: الأول يرى في تعاظم نفوذ «حماس» و«الجهاد» خطرًا ينبغي التصدي له فيما يمكن استخدامه لتبرير الوحشية الإسرائيلية سواء في اقتحامات المسجد الأقصى أو في خطط ضم الصفة، والآخر يقدر أن هذا الخطر يضاعف من تهميش حركة «فتح» والسلطة معًا. وعلى الرغم من أن كُثرًا اعتبروا تهميش السلطة «خطأً استراتيجيًا» فإن ثمة رأيًا ثالثًا يجد مصلحة في تشظّي الولاءات وزيادة عوامل الانقسام في الساحة الفلسطينية.

هذه الساحة تغيرت واقعيًا بعد حرب غزة 2021 وبدا واضحًا أن التخطيط الإيراني استفاد من دروس الحروب الثلاث السابقة، وتضاف إليها حرب صيف 2006 بين «حزب إيران/ حزب الله» وإسرائيل. إذ كان التحليل السياسي- الاستخباري لكل من هذه المحطات يفيد بأنها واقعيًا مواجهة «إيرانية- إسرائيلية»، ومنها استنبطت إيران إستراتيجية «وحدة ساحات المقاومة» وانكبت على تفعيلها حتى أصبحت سياسة علنية لطهران لا يتردد إبراهيم رئيسي في تظهيرها باجتماعه مع «قادة الفصائل» في دمشق، ويؤكدها وزيره حسين أمير عبداللهيان بزيارته للجبهة في جنوب لبنان برفقة كوادر من «حزب إيران» اللبناني، وذلك بعد أيام على الترخيص لـ «حماس» بإطلاق صواريخ من بلدة القليلة اللبنانية على إسرائيل.

عملت إيران على إبراز «وحدة الساحات» في هذا التوقيت، بمعزل عمّا إذا كانت واقعية وفاعلة أم لا، لتكريس استلامها المبرم للملف الفلسطيني بالتزامن مع الانفتاح العربي عليها. وفي الأساس تستند طهران إلى «منطقٍ» فرضته سلطة الاحتلال نفسها وشجّعت عليه واشنطن بدعمها الضمني لإدامة الاحتلال. فالوضع القائم لم يترك للفلسطينيين سوى خيار المقاومة، كما قبل «اتفاق أوسلو»، بالحجارة وبأي وسائل أخرى متاحة سواء جاءت من إيران أو من سواها، ولا أحد سواها يستطيع حاليًا أن يقدّم الصواريخ والقدرة على تطويرها بحيث تخترق «القبة الحديدية» وتضطر إسرائيل لاستخدام منظومة «مقلاع داود» ولو بكلفة باهظة.

للمرة الأولى تخرج إسرائيل من التلميح إلى التصريح، فمع إعلان بنيامين نتنياهو أنه وجّه الجيش «لمعركة متعددة الجبهات، إذا لزم الأمر» كانت إسرائيل تعترف عمليًا بأن «وحدة الساحات» أصبحت واقعًا إستراتيجيًا وتهديدًا جديدًا لأمنها يمكنها استخدامه دوليًا لابتزاز الغرب واستدراج الدعم أو التضامن معها في الحدّ الأدنى حتى عندما يكون واضحًا أنها معتدية، لكن معتدية على «حركة الجهاد»، أي على إيران، وإيران شريكة روسيا في حرب أوكرانيا، إذًا فلإسرائيل ضوء أخضر كي تقتل مدنيين وغير مدنيين، وتدمّر ما تشاء من الأبنية السكنية. ومن جانبها أشادت إيران بأن فصيلها الخاص «الجهاد» صمد وخاض المعركة وحده، وبدا تحييد «حماس» نقطة تقاطع إسرائيلية- إيرانية.. في انتظار المواجهة المقبلة.

* ينشر تزامنا مع النهار العربي