نحن نفقد الكثير عندما نضع لحياتنا أطرا من روتين يجعلنا ندور داخل حلقات متشابهة من العمل والنجاح. وحتى الفرح الذي يعتمد على مصادر ترفيه محدودة؛ لأننا بذلك نفقد الشغف الذي يتحول مع التكرار إلى عادة تسحب معها الملل إلينا.

‏ما أجمل أن نكسر قوالب الروتين ونخوض تجارب حياة تختلف عما اعتدنا عليه.

وما أنفع أن نتخلى عن مقاعدنا في زوايا الارتياح لنزور مناطق التعب لنعرف حجم النعم؛ عندها فقط سنرى الحياة من زوايا مختلفة، قد تكون هي ما يدير دفة حياتنا لتسير باتجاه مختلف لم نكن نتوقع يوماً أن نسير فيه.

مقدمة مقالي هذه لم تكتب بحبر المشاعر المتخيلة، إنما هي حرف أسطرها بأنامل الواقع والقناعة التي اكتسبتها عن طريق تطوعي مع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في مخيم الزعتري 17/ 18.

هي رحلة تعب وألم وحزن ولد من معاناة رؤية مناطق ومجتمعات بشرية تعيش معنا في عالمنا ولكنها تحت خط الفقر والعوز والحاجة إلى أبسط متطلبات الإنسان، مجتمعات تعيش بلا رتوش من مدنية تؤمن لها متطلباتها الأساسية، أو تجمل ترسمه على ملامحها بنية تحتية لخدمات لم أتصور يوماً أنها من أصعب أحلام تلك المجتمعات البشرية التي فقدت الأمن في أوطانها ففرت منها تبتغي النجاة من الرمضاء لتسقط في حمم من براكين المعاناة.

هناك في مخيم الزعتري فهمت المعنى الحقيقي لعبارة لا يأس مع الحياة، سمعت قصص الإلهام العظيمة التي حولت الأرض الجرداء إلى شبه حدائق خضراء يتجمل بها السكن المتواضع جدا، ولتكفي ساكنيها مؤنة الغداء.

رأيت أطفالا سرقت منهم ظروفهم وميض الطفولة لتحملهم المسؤولية بعزيمة وحكمة وعطاء يعجز عنه الكبار.

رأيت أعيناً صغيرة تشع فرحاً، وقلوبا بريئة تخفق سعادة من قطعة حلوى أو «بالونة» متواضعة قد يزهد بها طفل من عالم مستقر، ولكنها في الزعتري تعادل «عالم دزني» لطفل حرمته الظروف من أبجديات الفرح.

رأيت رجالاً بظهور قصمها الذل بعد العز، وضيق الحال بعد بحبوحة العيش، وغدر الظروف التي خانت رخاء الأمان حد إعاقة الحيلة، ومع ذلك صنع هؤلاء الرجال من الأمل عكازاً اتكؤوا عليه في رحلة البدء من جديد.

أما النساء فلهم في ملحمة الإلهام قصصاً أخرى.. أمهات وهن بتلات متعلقة في أغصان الطفولة، وأرامل في عمر الزهور، والأكبر سناً. رغم تواضع العلم إلا أنهن متخصصات بالفطرة التي صقلتها حرارة الظروف بالدعم النفسي والاجتماعي لقاطني المخيم.

الحياة هناك تسير بمشاعرنا على مراكب من دموع، ولكن لأن المتناقضات أمر واقع في الحياة، فقد جمعت الحزن ونقيضه في هذه الرحلة المختلفة والمميز والتي اعتبرها نقطة تحول جذري بحياتي. نفق الفرح الذي شق طريقة وسط جبل الحزن كان وطني «السعودية» التي كانت دموع فرحي بها تحلي بعذوبتها أجاج ملح دموع المآسي التي نشاهدها. من خلال رحلة الزعتري أحسست بيد مليكي وولي عهده -حفظهما الله- وهي تمسح علينا بحب كمتطوعين خوفا علينا من أي خطر، أو حاجة يمكن أن نحتاجها فلا نجدها. وبحرص واهتمام شديد من المسؤولين عن الرحلة على تذليل كل عقبة قد تعترض طريق عملنا الإنساني بما يليق بالمركز الذي يحمل اسم والدنا الغالي، أو بالوطن الذي له حق علينا أن نمثله أحسن تمثيل في تلك الرحلة كان قلبي يتراقص على نبض من فرح، وأنا أرى رهان سمو ولي العهد الأمير محمد حفظه الله وهو واقع أمامي، شباب وشابات من مختلف مناطق المملكة، وبتخصصات متباينة، جمع بينهم الهدف الإنساني المتجرد من كل مصلحة ذاتية أو مادية ليؤدوا ما أتو من أجله بتعاون واحترام وتنافس لتقديم الأفضل لمصلحة الإنسانية باسم الوطن، لم أر هنا ذئابا وشياها.. بل رأيت نساء ورجالا يجمعهم هدف واحد يغلب على عملهم به الاتزام والاحترام والأخلاق، أبهرتني لغة الحوار المشتركة بين شبابنا من الجنسين التي تتسم بالعمق الثقافي، والتخصص المهني والاحترام المتبادل. أسعدني مبدأ عمل الجماعة الذي ذابت فيه فردية العطاء بالتعاون بينهم دون تنافسية بغيضة. رأيت نساء وفتيات فهمن جيداً معنى التمكين والهدف منه فعملن وفق مبادئه، ورأيت رجالا وشباب آمنوا بالتحول الجديد ومدوا أياديهم باحترام لزميلاتهم فكمل كل منهم الآخر ليكون الناتج «خير العمل». ولن أنسى مشهدا من أجمل تفاصيل الرحلة، وهو الهوية الإسلامية التي كانت حاضرة بقوة وقت الصلاة، وفي طريقة تعامل المتطوعين مع بعضهم، والهوية السعودية التي كانت طاغية بجمالها على تفاصيل الرحلة. باختصار من يحب فتح حوارات تأملية مع نفسه غالبا ما يكون في تحديثات مستمرة لذاته. وهذا ما ملأت به حقائب روحي وعقلي وأنا أعود إلى الوطن. اقتنعت بأن ‏«الأطر سجود داخلية.. حتى وإن كانت من ذهب». وأن نعم الله علينا نحن بالذات كثيرة وأهمها أننا سعوديون في وطن يستحق، يتعدى الفخر به حيز الشعور إلى أن يكون النَفَس الذي نستنشق معه طعم الحياة. وإننا كمواطنين يجب أن نثق بعد ثقتنا بالله أننا عند قيادتنا أغلى من كنوز الدنيا، وأنهم لا يقبلوا لنا إلا العز والكرامة مهما كانت وجهتنا في الأرض.