لو أعدنا قراءة «عودة الروح» لتوفيق الحكيم بقدر من التمعن لوجدنا أن النص يتسم بأسلوبين مختلفين أولهما أسلوب واقعي ساخر يتتبع تفاصيل الحياة اليومية، وثانيهما أسلوب رومانسي يرى في الواقع جوهرًا مثاليًا يسمو على مظهره المادي. الأسلوب الأول هو أداة الكاتب في تقديم سكان 35 شارع سلامة (محسن وأعمامه وعمته ومبروك) وجيرانهم. أما الأسلوب الثاني فيرتبط بالصورة التي يقدمها الحكيم للفلاح المصري وحياته، وفي رأيي أن معنى عودة الروح ودلالالتها وأبعاد العلاقة التي تنشئها مع الواقع التاريخي تكمن في وجود هذين الأسلوبين وفي المساحة الفاصلة والواصلة بينهما.

في الجزء الأول من «عودة الروح» يقدم لنا الحكيم صورة لحياة بعض أبناء الطبقة الوسطى المصرية، وهي صورة لا تقتصر على مجموعة الشخصيات الرئيسية (محسن الطالب ومشروع الكاتب، حنفي المدرس، عبده طالب الهندسة، سليم ضابط الشرطة، والاثنان اللذان يدوران في فلكهم ويقومان على خدمتهم: الخادم مبروك والعمة زنوبة) بل تتسع لتشمل ضابط الجيش المتقاعد الذي قضى سنوات طويلة في السودان، ومصطفى الذي ورث تجارة عن أبيه، وسنية التي يقع في حبها كل الشباب في الرواية. وبذلك يبسط توفيق الحكيم نسيجًا لحياة الطبقة الوسطى المصرية بجذورها الريفية وارتباطها الحديث بالمدنية وبعلاقتها بالعالم الخارجي (السودان) وبمواقفها من المرأة (معشوقة أو خادمة أو أمًا).

وتقسم الصورة بقدر كبير من الحيوية تستند إلى قدرة منشئها على خلق المشاهد الدرامية وحساسيته المفرطة لإيقاع اللغة الدارجة المتبدي في حوار الشخصيات. كما تتميز بعنصر الفكاهة حتى في أكثر المواقف جدية من مشهد خمسة أشخاص مصابين بالحمى يعودهم الطبيب، إلى مشهد خمسة أشخاص معتقلين بسبب اشتراكهم في الثورة، مرورًا بمشاهد أخرى صارت جزءًا من الخلفية الثقافية لمحبي الأدب في هذه البلاد؛ لعل من أشهرها مشهد ورك الوزة، ومشهد قطعة الجبن التي قدمت إلى الضيفين الأجنبيين.

ولن يفوت القارئ الفطن أن الحكيم لا يحيد عن أسلوبه الواقعي في هذا الشق من نصه حتى وهو يقدم الحب الرومانسي الذي يربط شخصیاته بسنيه، فهذه الشخصيات تعيش الحالة الرومانسية الشائعة والمبررة في مجتمع لا يسمح باختلاط الجنسين. والرومانسية هنا صفة لعلاقة قائمة بين شخصيات وليس لأسلوب تناول الكاتب لها. وكثيرًا ما يلجأ الحكيم «لكسر» هذه الحالة ووضعها في سياق واقعي باستخدام تفاصيل من المشهد نفسه (ومن أمثلة ذلك تعليق الأستاذ على ما كتبه محسن الولهان على اللوح: امشِ، انجر، اقعد محلك، بلاش تلة عنا ومسخرة !» والإشارة إلى أن عبده المأخوذ بوجود سنية، والذي فطن أنه يرتقي درج الحب إنما يرتقي سلمًا خشبيًا لإصلاح الكهرباء. وذلك المشهد الفذ الذي يعيد فيه الحكيم كتابة مشهد الشرفة بين روميو وجوليت في النص الشكسبيري، وحيث يجعل مناجاة العاشقين سنية ومصطفى تتم تحت قذائف قشر الخضراوات الذي يلقي به (العزال) زنوبة ومبروك.

ولكن توفيق الحكيم حين يشرع في تقديم صورة للفلاحين المصريين، وهو ما يفعله تحديدًا في الفصلين الخامس والسادس من الجزء الثاني من الرواية يكتب الواقع بأسلوب رومانسي بنأي عن التفاصيل سعيًا وراء صورة كلية تجسد ما يعتقد أنه جوهر هذا الواقع.

ومن الدال أن المشهدين اللذين يرسمان هذه الصورة يشتركان في طبيعة بنائهما. في المشهد الأول يقف محسن الطالب الوافد من المدينة وابن أسياد القرية يرقب حركة الفلاحين أثناء العمل ويجعل منهم موضوعًا لتأملاته، وكذلك في المشهد التالي يكون الفلاحون هم أيضًا موضوعًا» الحديث بين مفتش الآثار الفرنسي ومفتش الري الإنجليزي.

في الحالتين هناك مشاهد (بالكسر) ومشاهد (بالفتح)، ذات وموضوع الذات تضفي على الموضوع شيئًا من نفسها وتسقط عليه قدرًا من ضوئها، إنها تشكل الواقع وتعيد صياغته في نفسي لحظة إدراكها له) وهذا هو المفهوم الابستمولوجي المثالي والمرتبط بالرومانسية).

إن الصورة الرومانسية التي يقدمها الكاتب لحياة الفلاحين الكادحين، لا تكشف عن نظرته الخارجية إليهم، ولكنها أيضًا توضح موقف البرجوازية المصرية من قضية تغيير الواقع الاجتماعي، ومن الطريف والدال معًا أن رواية عودة الروح التي ترتبط بثورة 1919 وينطلق من أرضيتها لا تطرح أي شيء عن التغيير بل تثبت الواقع اليائس بتمجيده والتغني بروعته، ومن هنا فهي تعري ـ وإن بشكل غير مباشر - ذلك التناقض الذي سقطت فيه البرجوازية المصرية بين ارتباطها بالماضي ورغبتها في الحفاظ على مظاهره، وبين مشروع النهضة والتحديث المطروح عليها إنجازه.

1984*

* روائية وأستاذة جامعية مصرية «1946 - 2014»