في عالم «المنطق التعميمي»، وأخذ الناس بأوزار غيرهم، يتألم الإنسان الحر كثيراً، بخاصة إذا كان الأخذ بسبب مسائل منطقية، أو كان اللوم بسبب عدم بذل الجهد الصادق في التحقق مما يشاع زوراً وبهتاناً، حتى لو كانت هناك بينات مثلاً، لأن «البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته».

سيد أهل العدل، صلوات ربي وسلامه عليه، وفي الحديث الصحيح، وجه سيدنا علي بن أبي طالب عند انتدابه للقضاء في اليمن بقوله «لا تقضِ لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر»، لافتاً نظره لضرورة تحري الصواب، والتجرد من الأهواء، ومن كل ما لا يرضي الله، مما قد يؤدي للتأثير في الرأي والحكم.

من الشواهد في ما المقال بصدده، ما رواه الإمام ابن حزم الأندلسي، رحمه الله، في كتابه المشهور «المحلى بالآثار»، الذي أبدع في تحقيقه العالم الكبير بشار عواد، حفظه الله، قال: «حدثني ابن أبي ذئب الجهني عن عمرو بن عثمان بن عفان قال أتى عمر بن الخطاب رجل قد فقئت عينه فقال له عمر: تحضر خصمك فقال له: يا أمير المؤمنين أما بك من الغضب إلا ما أرى، فقال له عمر: فلعلك قد فقأت عيني خصمك معاً، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معاً، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء»،

وقصة أخرى جميلة ذكرها الإمام أبو الليث السمرقندي، من علماء القرن الرابع الهجري، في كتابه المعروف باسم «تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين» يقول: «روي عن عمر، رضي الله عنه، أن رجلاً جاء إليه بابنه فقال إن ابني هذا يعقني، فقال للابن: أما تخاف الله في عقوق والدك، فإن من حق الوالد كذا، ومن حق الوالد كذا، فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أما للابن على والده حق؟ قال نعم حقه عليه أن يستنجب أمه، وحسن اسمه، ويعلمه الكتاب، فقال الابن، فوالله ما استنجب أمي، وما هي إلا «جارية» اشتراها بأربعمئة درهم، ولا حسن اسمي، سماني جعلاً -ذكر الخفاش- ولا علمني من كتاب الله آية واحدة، فالتفت سيدنا عمر إلى الأب وقال: تقول ابني يعقني! فقد عققته قبل أن يعقك».

شخصياً لا أجد، هذه الفترة، آفة مؤلمة تساوي آفة ترك فريضة (التبين والتثبت) التي أوجبها الله في محكم تبيانه بقوله سبحانه: {..فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة..}،

كما هي في القراءة المشهورة، أو {..فتثبتوا..}،

كما هي في القراءة الصحيحة الأخرى،

وهي أمر رباني بعدم التسليم لأحد في إبداء الرأي عن أحد، حتى لو كان ثقة، وبخاصة عندما تشم من رائحة المخبر، وكاتب الخبر رائحة الاختلاف الفكري، وربما الشحناء وغيره، وليس في هذا التبيين تشكيكاً بالمخبر، بل هو التثبت الذي أُمِرنا به، وخصوصاً في عصر التعميم، والإشاعات، وحب التسلق بالأكاذيب والأراجيف، وأختم بتأكيد خطورة التسرع في الحكم على الأمور، والاستناد إلى روايات البطانات، وتوصيف وتصنيف الناس، والاستجابة للموتورين والمتوترين، الذين حصروا همهم في القتل المعنوي لكل من اختلف في فكره عنهم، وأخذتهم «العزة»، وظنوا أن «العنزة» يمكن أن تطير.