عرفنا الفضاء وعلوم الفلك قبل أن يعرفها الآخرون، تلك كانت ملاحظات أهل هذه الأرض من بدو وحاضرة، أولئك الذين أطلقوا على النجوم المسميات، واهتدوا بها في مساراتهم وصحاريهم ومواسمهم الزراعية، وجمعوا بين علومها وعلوم الأرض إثراءً للحياة وتوثيقًا للمعرفة التي يتم البناء عليها لاحقًا.

إنسان هذه الأرض، وبمثل ما عرف الكثير من علوم الفلك، كان له السبق في معرفة أسرار الأرض ظاهرها وباطنها بالفراسة والملاحظة والذكاء الفطري، فسكب العرق، وأعمل العقل، وقام بالتنقيب عن مواقع المياه متسللًا إلى حصونها الصخرية والرملية، فوصل إليها، وأخرجها زادًا للحياة، ورمزًا للإعمار، فازدهر الزرع وامتلأ الضرع، وتدفقت الخيرات على الصحاري القاحلة.. وغردت الطيور احتفالًا بإنجاز هذا الإنسان المبدع.

كان سبر أغوار الفضاء من خلال رحلة ديسكفري التي شارك فيها الأمير سلطان بن سلمان في عام 1985 تطورًا طبيعيًا لريادة إنسان هذه الأرض واقتحامه مجالًا له فيه تاريخ ضارب في عمق القرون، مجال الشغف بالتأمل في الفضاء، واستطلاع مكتنزاته، والإفادة من علومه لخير الإنسان.

فتح العالم فاه دهشة من وجود إنسان قادم من صحراء الأرض السعودية، ليكون ضمن كوكبة من أكثر الدول تقدمًا وريادة، فعَلِمَ من علم بما تختزنه المملكة من شباب يتقدمون الصفوف في كل مجال علمي، ويسهمون بكل قدرة وجدارة في بناء حضارة كوكب الأرض، مثلما كان لهم نصيبهم الوافي في صناعة التاريخ الإنساني للعالم الذي نعيشه.

توالت الأعوام، وتراكمت المعرفة الإنسانية بالفضاء وعلومه وخيراته. وظلت بلادنا سهمًا نافذًا في كل ذلك، وظل أبناؤنا رقمًا حاضرًا في تطوير تلك العلوم، مشاركين في أبحاثها، متقدمين في تسخيرها لخدمة الحياة الحضارية للوطن، ليحظى الإنسان في أرضنا بأفضل وسائل الاتصال والتواصل في عالم التقنية، وأكبر الفوائد من عطاءات الأقمار الاصطناعية. وبعقله المستنير، اقتحم إنسان هذه الأرض المنابع التكنولوجية في استخدام العلم لإدارة الموارد المائية، ومزج المعلومات لاستكشاف المواقع للمياه الجوفية، والتحكم في الصناعة البترولية تخطيطًا وتنقيبًا ومعالجة ونقلًا.

كل هذه الإنجازات تداخلت فيها علوم الأرض مع علوم الفضاء المتاحة عبر الاهتمام العميق والعريق بعلوم الفلك، لتقول للبشرية إن الإنسان السعودي ركن مكين في صناعة المعرفة والعلم والتقنية.. تلك المخرجات التي يشهدها الإنسان ويعيشها في كافة مناحي الأرض، لتعود خيرًا للوطن.. وتنداح ثمارها للبشر جميعهم أينما كان وجودهم.

نعم، نحن أهل بادية متعمقة الجذور في هذه الأرض، لكننا أصحاب سواعد وعقول وريادة، نحتل أماكننا في مقدمة الصفوف، ويضع العالم رؤيتنا ومساهماتنا موضعها اللائق والمتقدم في درجات التقدير والاحترام.

وهكذا نسير بثقة نحو العلياء، وهكذا يأتي أبناؤنا مرة أخرى لسبر أغوار الفضاء خدمة للإنسانية جمعاء، فتساهم المملكة بابنتها العالمة ريانة برناوي، التي دخلت التاريخ اليوم باعتبارها أول رائدة فضاء سعودية وعربية، كما تساهم المملكة بابنها علي القرني، أول رائد فضاء سعودي أيضًا ينطلق للمحطة الدولية، فتتكامل الصورة، وتتسع الآفاق أمام أدوار سعودية أكثر عمقًا في مستقبل الأيام.

إن من كان يقول إننا بدو زعمًا منه أنها مذمة، تذهله الآن تجربة إنساننا ومساهماته التي كان يجهلها، تلك التجربة التي تجعل كل سعودي فخورًا بتلك البداوة، وتقدم نموذجًا يتمنى الغير أن يكونوا مثله قدرةً على صناعة البيئة المتطورة اللائقة بالإنسان.