هذا هو المقال الرابع حول «آلية عمل الصحوة اليوم»، الذي سأعرض فيه أحد جوانب دراسة: «نحو فضاء جديد للدعوة»، وهذه الدراسة التي أشرف عليها سلمان العودة من الأهمية بمكان حيث توالت بعدها أعمال ومنجزات الصحوة، بشقيها الإخواني والسروري، بمختلف تفريعاتهما المحلية والخليجية والدولية، عبر شبكة متصلة ومترابطة في أنحاء العالم من خلال التنظيم الدولي في كلا الفريقين، ومن أهم هذه الأعمال: التقارب مع الفرقاء من الصف الإسلاموي على قاعدة: «توحيد الصف، لا توحيد الكلمة»، وترميم العلاقات مع أعداء الأمس، وبخاصة الحكومات، والشخصيات الاعتبارية، وكذلك إنشاء الاتحادات العالمية، والمؤسسات الخيرية، واحتكار الأوقاف المليارية، واقتحام الإعلام، تقليديه وجديده، بشكل أوجد ظاهرة «الدعاة الجدد»، ولا يخفى أن الأمر تطور أكثر بعد ذلك مما يشي بأن ثمة تطويرا لهذه الدراسة، والعمل على غيرها، وتفعيل ما ترك من الدراسات القديمة، وهي كم كبير لدى التنظيم الإخواني الإرهابي على وجه الخصوص، بعد محاولة التحول التدريجي للسلمية ظاهرياً، وإخفاء القتالية والجهادية، وتنفيذها عبر جيوب ميليشاوية منتمية بالسر، ومنشقة في الظاهر، فنشأت من خلال هذه التطورات والمراجعات التي لا تهدأ، ظواهر الحقوقيين، وظواهر أكاديميات التغيير، والتحول التدريجي إلى هضم معضلة تناقضات مفاهيم الديمقراطية مع نظرية الحاكمية، ولو استمر الوضع قليلاً لرأيت دعاة الحاكمية ينادون بالعلمانية، في براغماتية ستذهلك حتماً.

ولا بد لإدراك التحولات والتلاعب في الفكر الصحوي، من مراقبة الفتوى الصحوية، فالتغير الكبير بين الفتاوى العلنية، وفتاوى الظل شيء مدهش، وهو الأمر الذي مهد لعبور كثير من المجموعات الشبابية الصحوية بأفرادها الكثير من المآزق الحركية والتنظيمية التي لو طالت الجسد الصحوي لفرغته من الداخل، ولتعذر استمرار أي فرد معهم، إلا المستنفعين، وذلك من خلال وجود مجموعات شبابية صحوية لا تلتزم بنمطية سلوكية معينة عرفت عن المتدين، مما أدى إلى المحافظة على اتساع نطاق الأثر الصحوي حتى على غير المتدين، وأعملت بطبيعة الحال القواعد التربوية والسلوكية الإخوانية في هذا الصدد مثل: نظرية حرارة المشاعر والشعور، والتعاون فيما اتفقوا فيه، والتعاذر حال الخلاف.

وهذه المجموعات أنتجت خطاً صحوياً لا يرى بأساً، في الغناء، والاختلاط، وحلق اللحية وغيرها، بل وما هو أبعد من ذلك، من الأمور التي تعد ثوابت مبادئية وقيمية في الصحوة، غير أن هؤلاء الصحويين الذين لا يشبهون الصحويين، تظهر صحويتهم في قضايا مثل الأمة، والخلافة، وأردوغان وما شابه ذلك.

ولا يفوتني الإشارة إلى أمر مهم، أسهم في بعض التماسك التربوي لدى الصحويين، وهو أن الترويج لبطولات الرموز الصحوية في التحقيقات بعد إيقاف 1994، كانت سبباً في تماسك الأسطورة في أذهان الشباب الصحوي، الأمر الذي استغله التربويون حالة الأزمة الوجودية التي عاشتها الصحوة وقتها، واستثمروها خير استثمار، رغم معارضتهم لما حدث خوفاً على المكتسبات، غير أنهم رجعوا على أنفسهم وجعلوا ما حدث بمثابة التطبيق العملي للتربية الإيمانية والجهادية في سنوات الإعداد، وانطلت الأمور على الأتباع بحكم عدم معرفتهم جلية الأمر.

على كل، ذكرت في المقال الثاني، أن الدراسة شملت مجموعة من المحاور، من أهمها: محور حول الطرح الفكري، وهو ما سأستعرضه بصورة عاجلة وسريعة في هذا المقال، وبقية المحاور التي رأيت أهمية عرضها، سنتناولها بالبيان المقتضب في المقالات القادمة.

يقول سلمان العودة عن نتائج دراسة: «نحو فضاء جديد: هي خلاصات لم نرد منها، أن تصل إلى الكلمة الفصل في قضايا دعوية وعلمية متنوعة، ولكننا أردنا أن نستبين منها رؤى ومصابيح، تضيء دروباً طويلة في العمل الدعوي، رؤى تفضل بها علماء أجلاء ودعاة أفاضل ومفكرون معروفون، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الدكتور عبدالمجيد الزنداني، والشيخ محمد العبدة، والدكتور سعيد بن ناصر الغامدي، والشيخ إبراهيم الناصر، والأستاذ جميل فارسي، والأستاذ جمال سلطان، والدكتور عبدالرزاق الشايجي، والأستاذ أحمد أبو لبن، والداعية يوسف إسلام، والأستاذ رافل ظافر، وآخرون وردت رؤاهم في ثنايا الدراسة، وعدد آخر لم يأذنوا بالتصريح بذكر أسمائهم فاقتصرنا على ما رضوا لأنفسهم أو ما ارتأيناه لهم من أوصاف». وأقول: يكفيك من سوء مشاهدة هذه الأسماء، وما فعلته لاحقاً لتمزيق الأمة المتوهمة، وخيانة الأوطان والمجتمعات، والسعي في إشعال الفتن.

وقد تناول محور الطرح الفكري، وهو المحور الأول من محاور الدراسة، ثمانية عشر مجالاً، أعرض أهمها بحسب خطورتها الفكرية -من وجهة نظري: مجال الكليات والمجملات من الدين، التي هي من الوضوح بحيث يمكن جمع الكلمة عليها، ومجال التعامل مع المخالف وضوابطه وأساليبه الشرعية، ومجال العقيدة الصادقة كمحرك للطاقة الفردية والاجتماعية، ومجال العدالة الاجتماعية ودورها في الأمن الاجتماعي، ومجال الحرية كقيمة إنسانية وضوابطها الشرعية، ومجال تأصيل قضايا المرأة، ومجال التميز والاستقلال عقدياً وسلوكياً، ومجال الوحدة بين المسلمين وأسسها وبنائها، ومجال الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، ومعالجة أدواء المجتمعات الإسلامية كالطبقية، وإهدار قيمة الإنسان، والخوف، والسلبية، ومجال شمولية مفهوم الجهاد على جميع الأصعدة العلمية والعملية، ومجال النقد الموضوعي للذات وللآخر مثل: نقد المجتمعات، الدول، الجماعات، الأفراد، ومجال المشروع الحضاري الإسلامي ومعالمه ومراحله، ومجال مبادئ وأسس الاقتصاد الإسلامي وتطبيقاته.

وقد أكد بعض عينة الاستبانة، على ضرورة إضافة مفهوم توحيد أبناء الصحوة، من خلال تحديد مجالات الاختلاف الممكنة، ووسائل الوصول إلى تكوين رابطة قوية بين الدعاة، كما تم تأكيد أهمية إضافة مجالات الوقف الخيري، والعمل الخيري، وكذلك إضافة مجال الاستفادة من وسائل الإعلام، والاستثمار الأمثل للوسائل المختلفة كالفضائيات. وطالب بعضهم بإضافة مسائل إحياء المفاهيم الإسلامية الغائبة، كمفهوم الأمة الواحدة، والجسد الواحد، ومواجهة الاحتلال المقنع، وكذلك إضافة مجال مواجهة التحديات المعاصرة، من خلال تعرية مواقف وسياسات بعض التكتلات والقوى العالمية.

وقد تنوعت الرؤى التي اقترحتها الشريحة المستهدفة من الاستبانة، إلا أن ما لفت انتباهي، تأكيدهم على أمرين، أحدهما: ضرورة الفهم العميق للأمور السياسية، والاقتصادية، والخلفية التاريخية، والواقع الاجتماعي، والثاني: إقامة مراكز للدراسات والتخطيط بدلاً من الارتجال والتقديرات الفردية، وللحديث صلة، عن مضامين المحور آنف الذكر.