إنَّ اتباع المنهج العلمي في الأمن الفكري هو ما يحقق أفضل النتائج المعرفية، ومن الفروع البحثية التي يجب إعمالها في الأمن الفكري البحث الأركيولجي لأيدلوجيات التطرف، وذلك بإرجاع الأفكار المتطرفة إلى مصادرها التاريخية، والنظر فيما للأحداث التاريخية من أثر على صعيد التأويل، والقطيعة، والتفسير، والتطوير سواء للأفكار السياسية أو النظرة للعالم.

وللتيارات المتطرفة أنساق فكرية، والنسق هو منظومة معينة متسقة إلى حد ما تجعل من يعتقدها ينظر من زاويتها إلى نفسه وإلى العالم، وهذا النسق يختلف من زمن لآخر، ومن ظرف لآخر، ويمكّنُ البحث الأركيولجي من الكشف عن أصول تلك الأفكار، بما يساعد على فهمها، وتحليلها، ومواجهتها فهو يفضح أصولها التي حاول أصحابها تجاهلها بإضفاء طابع القداسة الدينية عليها، رغم أنَّ تلك الأنساق هي الأساس الذي تحاكموا إليه.

وعلى سبيل المثال: كان تأسيس جماعة الإخوان المسلمين سنة (1929)، على الصحيح لا على ما اشتهر بأنه في (1928)، حينها كانت مخيلة حسن البنا تتجه نحو إعادة إحياء الدولة العثمانية التي ألغيت سنة (1924)، فعمل على محاكاة السلطان العثماني وتقمّص دوره بين أتباعه، حتى سموه (الإمام الكامل) قبل أن يتحول الاسم لاحقًا إلى (المرشد العام)، وجعل البنا من (النظام الخاص) جيشًا له يحاكي فيه قوّات (الانكشارية) في التاريخ التركي، وأخذ البيعة من أتباعه كأنه أحد السلاطين.

وبعد مقتل البنا (1949)، انتقل نسق الجماعة الفكري إلى تصوّر آخر، بعيدًا عن إقامة سلطان دون أن يكون قد وصل إلى السلطة بعد، وذلك أنه في العام نفسه حدث انقلاب عسكري في سوريا قاده حسني الزعيم، وكان فاتحة لسلسلة من الانقلابات التي حاكته في المنطقة العربية، فتوجه تفكير الجماعة نحو الانقلاب، بأنَّ إقامة دولتهم المنشودة يمر عبر الانقلاب العسكري، وكان هذا حاضرًا في أذهانهم سنة (1952) في مصر مع حركة (الضّباط الأحرار)، ثم خفَتَ هذا التصوّر مع حل الجماعة سنة (1954).

بعدها ذاعت أخبار الحركة الثورية في كوبا على حكم باتيستا، وهو عسكري وصل إلى السلطة بانقلاب، فقاد كاسترو مجموعات مسلحة ضده، حتى نجح بإسقاطه والوصول إلى السلطة (1959)، ومجّدت الأحزاب اليسارية -وقد كانت نشطة في مصر حينها- هذا الحدث، بما انعكس على تصوّر جماعة الإخوان في تلك المرحلة، وهم الذين خاصموا عبدالناصر، فسعت إلى محاكاة الجماعات المسلحة، بالدخول في مواجهة مع الدولة المصرية، ورأوا انتهاج العنف والإرهاب، وبدأوا بإعادة النظام الخاص فيما سمي بتنظيم (1965)، كما تدل عليه شهادة علي عشماوي، حتى أعدم سيد قطب (1966).

وفي أدبيات الجماعة جعلوا من (الثورة) بتلك الصورة أساسًا لتأويل مصطلح (الجهاد) في الإسلام، وتوجه تصوّرهم لإقامة الدولة بأنه يمر عبر إعلان (الجهاد) المسلّح على الدولة القائمة، بأنهم سيقاتلون الدولة على الطريقة الكوبية ثم يتوسعون إلى باقي الدول، وبقي هذا التصور حاضرًا في أذهانهم مع أحداث سوريا (1976-1982)، وأفغانستان (1979-1989).

ومع صعود النموذج الإيراني (1979) دخل على الجماعة مفهوم الثورة الجماهيرية، فبدا لهم كأنه خيار جديد ثالث بين الانقلاب، وخوض حرب العصابات، وذلك بأن يحرّضوا الجماهير ويحثوها على النزول إلى الشارع، وفي وسط المتظاهرين ستحمي الجماعة نفسها، وتمنح بدماء القتلى تعاطفًا عالميًا معها، حين يظهرون بمظهر المسالِم المعتدى عليه، وكان في تصوّرهم أنهم سيقودون تلك الجماهير، وبدورها ستحملهم الجماهير إلى السلطة، في محاكاة منهم للخميني في إيران، ثم مع التسعينات دخلت تجربة أربكان في تركيا إلى أدبيات الجماعة، فانبهروا بتجربة الانتخابات، وزاد من هذا التأثير بالنموذج التركي وصول أردوغان إلى الحكم.

وبهذا يظهر أنَّ الأنساق الفكرية تتبع تأثير الظروف، وقراءتهم للوقائع حولهم، فأعادوا وفقها تأويلهم للنصوص الدينية، تلك الأنساق لا تكون منفصلة بالضرورة، فقد تعمل متداخلة، كالسعي للثورة الجماهيرية، وفي الوقت نفسه انتهاج أعمال الإرهاب والعنف، أو الدخول في الانتخابات والاعتماد على الحشد الجماهيري ثم الاستعانة بالعصابات المسلّحة، فهذا استعراض سريع لما يمكن للبحث الأركيولجي أن يكشفه بما يزيّف الدعاية التي تحاول أن تجعل من تلك الأنساق معاني للنصوص الدينية نفسها، ويظهر بهذا أهمية ما يمكن لهذا المبحث أن يقدمه في رصد الأنساق الفكرية وفهمها، وما يكون له أثر على إمكان التنبؤ بها، والمواجهة للأفكار المتطرفة.