أشبه بأمسية حب وطنية كانت تلك الليلة. ماذا فعل أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل مساء الأربعاء الماضي في لقائه مع شباب وبنات جدة؟ في الواقع لقد قام بشيء مهم ومؤثر للغاية، فالمناسبة لم تكن مجرد حدث بروتوكولي سطحي، ككثير من المناسبات التي تعج بها كثير من المناطق، ولكنه كان حدثا وطنيا بالدرجة الأولى إضافة إلى ما يحويه من أبعاد اجتماعية وثقافية وقيمية، لقد كان احتفاء بواحدة من الأفكار التي هي بحاجة للدعم والتشجيع ومنحها المزيد من الكثافة في الحياة السعودية، وهي أفكار وقيم التطوع.
في الواقع إن فكرة الحديقة التي تحمل أسماء الشباب والفتيات، هي فكرة لا تحتاج لمجرد قرار إداري، ولكنها فكرة ريادية تتجه لتكون حافزا لأفكار وقيم وطنية. ولقد كان تفاعل الشباب والفتيات مع خالد الفيصل ذلك المساء يحمل إشارة إلى أننا تأخرنا كثيرا في استثمار القيم الحيوية للشباب والتي يمكن أن تنتج نماذج وطنية مؤثرة وفاعلة للغاية.
في ثقافتنا المحلية ظل العمل التطوعي لفترات طويلة حكرا على تعريف واحد، بل ارتبط تعريف العمل التطوعي، بالتعريف الشعبي للتطوع، وهو الالتزام، فكانت صورة المطوع والمتطوع بالنسبة لنا هو الذي يوافق على القيام بتوزيع الأشرطة الدعوية، والذي يمكن أن يستوقف الشباب ليحدثهم عن خطأ إسبال الثياب، أو الذي يوزع كوبونات التبرع لإفطار الصائمين في رمضان، وغير ذلك.
هذه المعاني، التي قد يحمل بعضها نوعا من الإيجابية، مع ما أحاط بالكثير منها من سلبية وانقلاب على أفكار المصلحة والجدوى، إلا أن أبرز ما يمكن ملاحظته فيها أنها مثلت تكريسا لفكرة غياب المواطنة عن العمل التطوعي، وانطلقت من حوافز غير وطنية، وبالتالي اتجهت إلى أهداف غير وطنية، بينما يمثل العمل التطوعي في المجتمعات الحديثة صورة إيجابية للمواطنة، وقيمة وطنية عليا، تجعل من الوطن والإخاء الوطني حافزا للبذل والعطاء والعمل من أجل الآخرين، شركاء الوطن والمصلحة.
في ثقافتنا السعودية يحظى ذلك الإيمان المدني بقيمة التطوع بحافز ومؤثر ديني يمثل جانبا من الحفز الحقيقي لهذه القيم، ويمثل أرقى معادلة يطمح كل العقلاء في الوصول إليها، وهي أن يستثمر السعوديون كل قيمهم الدينية والاجتماعية والثقافية ليخلقوا منها قيما وطنية عليا.
يمثل التطوع المدني الآن وفي كل العالم الثقافة الحقيقية والوحيدة للعمل خارج سلطة التكليف الرسمي، وبالتالي يمكن اعتباره حالة وطنية وإنسانية عليا، بل هي اللحظة التي يتم فيها استثمار القيم الإنسانية لتمثل وازعا للعمل الوطني، وإحلالها كمحفز للعمل داخل حدود الشراكة التي تمثلها الدولة القطرية بمفهومها الحديث، وفي الأحداث التي يشهدها كثير من بلدان العالم، نشاهد كيف يصبح العمل التطوعي ذا مكانة وتأثير قد يتجاوزان العمل الرسمي، ذلك أن العمل الرسمي يقوم بمهامه الوظيفية بينما يقوم العمل التطوعي بمهامه الوطنية التي تحفزها القيم الإنسانية، وفي التجربة السعودية، بل في تجربة بنات وشباب جدة تحديدا، جاءت المعادلة في أكثر صورها حيوية وإتقانا، حيث أثبتوا أن العمل التطوعي لدينا يستمد قيمه من روافد وطنية ودينية وإنسانية واجتماعية تجعل من العمل التطوعي السعودي تجربة مثالية للغاية.
الكارثة التي شهدتها مدينة جدة، ومثلما استنزفت أقلام الصحفيين والكتاب، وأدهشت كاميرات الأخبار بتتبع تفاصيل أحداثها، تلك الأحداث الواسعة والمثيرة الكثيرة أشغلت الإعلام عن القيمة الإيجابية الحقيقية التي ظهرت في أعمال المتطوعين والمتطوعات، إلا أنها لم تشغل خالد الفيصل، فقد كان أكثر انتباها من أن يفوت على المجتمع فرصة استثمار مثل هذه المواقف لتنبيه الشباب والفتيات إلى أنهم يمثلون الإيجابية الفعلية، وأن لديهم من الأفكار والقيم الجديدة ما يمثل التصدي الحقيقي لما قد يحدث من كوارث سواء يقودها الفساد الإداري أو الفساد الفكري المتطرف.
من الواضح أن تكريم الشباب والفتيات المتطوعين في أحداث جدة، كانت ضمن أجندة خالد الفيصل منذ بداية الأحداث إلا أنه كان يتوعد قلوبهم بمثل تلك الليلة الغامرة وطنية وامتنانا وتشجيعا، وهو ما تفسره الكلمة التي ألقاها، والتي تظهر فيها براعته الفنية في إدارة عملية الاستقبال، وكأنه يقول لهم: هذه الليلة ليست ليلة استثنائية لأنني هنا لأكرمكم، بل هي ليلة استثنانية لأنكم تستحقون التكريم الذي تحظون به.
والكلمات الأخيرة التي جاءت في خطاب الأمير خالد الفيصل للشباب والفتيات، وما حملته من معانٍ مؤثرة تأخذ جدواها الحقيقية حين نقرأ دورها في تحفيز ثقافة التطوع الوطنية، حيث ربطتها الكلمة بروح البناء والتعاون التي كانت أبرز دعائم الوحدة الوطنية السعودية.
الحديقة التي وجه الأمير خالد بإقامتها تقع في منطقة شرق جدة، أكثر المناطق التي تحظى الآن بإعادة الصياغة والتخطيط، وهي من المناطق التي شهدت نشاطا لمختلف أعمال التطوع التي قام بها المتطوعون والمتطوعات، وبالتالي فرمزيتها تكمن في مكانها وفي تخليدها لأسماء هؤلاء الأبطال من الشباب والفتيات وهو تعريف جديد للتكريم، واحتفاء بالمواقف الوطنية الفعلية التي سيمثل انتشارها الداعم الحقيقي لنشر هذه الثقافة المدنية.