ما يحتاجه القادة في رسم سياساتهم حتى تكون مؤثرة في زمننا الحاضر المليء بالأزمات السياسية وعدم الاستقرار، ليس فقط البيانات والمعلومات ودقتها، بل القدرة على معالجة هذه البيانات والمعلومات والاستنتاج والربط والاستشراف واستحضار الماضي للاستفادة منه، ومحاولة التطوير ضمن الظروف الحالية والواقع المعاصر و التحول، الذي أصبح ممكنًا بفضل التقنيات الجديدة التي تتوسط في الحصول على المعلومات ومعالجتها.

وبسبب التأثير المتزايد للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي مكنت الأفراد لوصول أكبر إلى المعلومات بينما تصبح المجتمعات أقل تماسكًا. وبالتالي، سيتعين على القيادات التعامل مع المجتمعات المتغيرة بشكل كبير. هنري كسينجر استعرض في كتابه الذي أطلقه والمعنون (Leadership: Six Studies in World Strategy ) ستة تصورات في الإستراتيجيات العالمية من خلال دراسات لقيادات عاصرها.

كيسنجر لعب دورًا مؤثرًا في العلاقات الخارجية الأمريكية بصفته مستشارًا للبيت الأبيض ووزيرًا للخارجية، و كان له تأثير هائل في السياسة الخارجية للولايات المتحدة إبان الحرب الباردة وما بعدها من خلال كتبه المؤثرة، التي تناولت الأسلحة النووية والسياسة الخارجية، وضرورة الاختيار، والشراكة المضطربة.

كتابه الحديث والذي يستند إلى دراسات حالة لستة قادة سياسيين في فترة ما بعد الحرب، هو تحليل للقيادة الجيوسياسية بناءً على المعرفة المباشرة للأفراد الذين يسرد تجربتهم، إلى جانب المعرفة المفاهيمية العميقة للشروط المسبقة للنظام العالمي والإستراتيجية الكبرى. هؤلاء القادة الست: كونراد أديناور، شارل ديجول، ريتشارد نيكسون، أنور السادات، لي كوان يو ومارجريت تاتشر. بين كيسنجر أن هؤلاء كانوا مهمين كقادة، «لأنهم تجاوزوا الظروف التي ورثوها وبالتالي حملوا مجتمعاتهم إلى حدود الممكن». حيث قاد أديناور، مستشار ألمانيا الغربية، الإصلاح الأخلاقي لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لأنه تقبل بشجاعة مسؤولية بلاده عن الحرب ودعا إلى تعويضات. يصف كيسنجر منهجه بـ «إستراتيجية التواضع». كذلك ديجول، الذي فر من وطنه بعد رفضه أن يكون جزءًا من حكومة فيشي، وقاد شعبه في «تجديد روح فرنسا». لقد فعل ذلك بصرامة إرادته، ما أدى إلى إعادة بناء المؤسسات الحكومية. ونظرًا لأن ديجول كان ينظر إلى السياسة بأنها تحددها الإرادة، وليس فن الممكن، فإن كيسنجر يسمي مقاربته «إستراتيجية الإرادة».

أما الإستراتيجية التي أطلق عليها (إستراتيجية التوازن) لنيكسون رغم إجباره على الاستقالة من منصبه، إلا أن كيسنجر يكتب تقديرًا لقدراته كخبير إستراتيجي عالمي. أيضًا استعرض كسينجر قيادة السادات في مصر، وبين أنه كان ضابطًا عسكريًا، وصل إلى السلطة بالرغم من تأثره بالقيم الثورية والقومية العربية، فإنه بمجرد وصوله إلى السلطة ركز على استعادة ثقة الأمة بنفسها واستعادة الأراضي التي فقدتها في حرب الأيام الستة عام 1967.

وقد تغيرت العلاقات المصرية الإسرائيلية نتيجة لقيادته، وبلغت ذروتها في معاهدة السلام الثنائية عام 1979.

ومن بين القادة أيضًا ذكر الإستراتيجية التي أطلق عليها «الإيمان بشعب» للقائد «لي كوان» وكيف حول سنغافورة المدينة الساحلية الفقيرة إلى دولة قومية مزدهرة.

أخيرًا إستراتيجية الاقتناع التي تمثلت في رئيسة الوزراء البريطانية تاتشر، حيث يذكر أن تجديد المجتمع البريطاني متجذر في قيم ومعتقدات تاتشر الأساسية. بعد أن غزت الأرجنتين جزر فوكلاند، التزمت تاتشر بشدة بالدفاع عن السيادة الوطنية البريطانية من خلال المطالبة بإزالة القوات الغازية. بسبب دعوتها الحازمة لتقرير المصير السياسي والاقتصاد القائم على السوق، مدعومًا بالتزام قوي بالمبادرة والمسؤولية الشخصية.

القيادات التي ذكرها الكتاب طرحها كسينجر بأسلوب أكاديمي معرفي، استند في حكمه على النتائج التي قدمها كل قائد خلال الفترة الماضية باعتبارها إنجازات لشعوبهم، وهي قراءات تحليلية أشبه بتلك القراءة التي قدمها ميكافيلي في كتابة (الأمير) وذلك في محاولته لقراءة التاريخ، واستنتاج قوانين وسياسيات قائمة على النتائج، كوصفة للقيادة المؤثرة.

وبغض النظر عن الإستراتيجيات التي ذكرها كسينجر كخبير في عالم السياسات الدولية، فإن ما يهمنا هو الاستفادة من التجارب التي تم الطرق إليها، والتي خرجت من رحم التحولات والمشي على أمواج غير مستقرة.

فالقيادات الناجحة هي تلك الإستراتيجيات التي تحقق أهدافها ورؤيتها متجاوزة كل التحديات والعواقب، أما القائمة على العمل دون رؤية أو أهداف كبرى، هي أشبه بالسياسات التنفيذية التي لا تحقق أحلامًا كبرى لشعوبها.