لم يحسن إيلون ماسك عملًا عندما أضاف خيارًا إجباريًا لمستخدمي تويتر، تطبيق التواصل الاجتماعي الذي يملكه والأكثر استخدامًا على مختلف المستويات الشخصية والاجتماعية والدولية. خيار يقلص حقك في اختيار الحسابات التي تتابعها بملء إرادتك ويقحمك في حسابات لم تتوقع يوما أن تظهر في «التايم لاين» الخاص بك.

الأمر بالطبع ليس بذلك السوء، فقد تتيح هذه الخاصية التعرف على شخصيات تفتح آفاقًا من نور في وعيك أو قراءاتك أو أخبار العالم من حولك، تمامًا كما أنها تجعلك تدرك من خلال شخصيات أُخرى كم يوجد هناك حمقى ومعتوهين في هذا العالم، وكم ضاق الأفق عن اتساعه للجميع. إنها أحيانًا ميزة لاختبار الصبر والتعبد لله بالشكر والرضا.

مع هذه الخاصية المنتهكة لمعاييري الانتقائية في تصفح التطبيق بشكل أساسي وفي تصفح البشر بشكل عام، كان أكثر ما يظهر لي - وأجزم أنه يظهر للكثير غيري- حسابات «يفضفض» فيها مجهولون عن مشاكل وهموم وقضايا تمر بهم، طالبين المشورة من أخلاط البشر الذين يقرؤونهم مرة، ومرة لأجل أخذ مختلف الآراء، ومرات لأجل البحث عن انتباه مفقود في الواقع أو ربما لمجرد شهوة الحديث، ومحاولة تحويل قضايا ذاتية محورًا لكل الكون المتمركز في أناه.

احتياج الإنسان لمشاركة بعض همومه واحتياجاته مع الآخرين نزعة إنسانية طبيعية، فالإنسان كائن اجتماعي بالأساس، يأنس مع من يتقاطع معه في تفكيره، ويحمل كيمياء تتفق مع كيمياء عقله وروحه، ما ليس طبيعيا بنظري أن يكون هذا الاحتياج للحديث مشاعًا بين الناس عبر تطبيق اجتماعي يطلع عليه ملايين البشر، وتمر به مختلف العقليات والمرجعيات والتفكير المتباين. خاصة تلك التي تتعلق بأمور شخصية، وقضايا مصيرية. فكيف يطلب إنسان عاقل مشورة جمهور لا يعلم من هم في أمر شخصي لا يعلم تفاصيله إلا هو.

الإشكال الآخر الذي يعتري هذه الحسابات التي تنادي بـ (الفضفضة الجماعية) تتجاوز استسهال نسف الحدود الشخصية التي على أي إنسان أن يضعها بينه وبين الآخر، تلك المياه الخاصة الدافئة التي لا ينبغي أن تخوض فيها أي أقدام غريبة، هو ما يعتري بعض «الفضفضات» من مبالغات قد تصير مع تكرارها من المسلمات، وأن يصبح البحث عن الانتباه والاهتمام من الآخر المجهول، هوس يبحث عنه من لامس روحه ضعف لأي عارض بسيط في حياته.

ما قد يستفاد من هذه الحسابات (البكاءة) هو ما يمكن رصده من الحلول التي يطرحها الكثير في شأن قضية اجتماعية ما، حلول قد تتكرر وتنحاز لمصلحة عرف سائد بين الناس، أو انتصار لنزعات قديمة، لكن نكتشف أنها مازالت بين شريحة كبيرة في المجتمع، تضم مختلف الأعمار والمستويات التعليمية والمكانة الاجتماعية.

تفاعل الجمهور مع هذه الحسابات قد يكون مصدرًا للباحثين الاجتماعيين والنفسيين لمعرفة المجتمع الحقيقي الذي نعيش بينه لأنه أكثر ما يكون وضوحًا وهو يرتدي أقنعة الاسم المزيف في تويتر، لابسًا عباءة الناصح الأمين مرة، والعارف الوحيد بهذا المجتمع مرة أخرى.

انتشار مثل هذه الحسابات التي تقوم على ترك الفرصة للناس للشكوى والتذمر والفضفضة، والبحث عن الحلول النفسية والاجتماعية والقانونية، قد نستطيع توجيهها بطريقة محترفة وعملية تخدم المجتمع بواقعية، من خلال نشر ثقافة أهمية اللجوء للطب النفسي والاجتماعي عند الحاجة إليه، وأن تكون هناك مؤسسات مجتمع مدني خيرية، ومجموعات دعم للحالات المختلفة تحت مظلات رسمية موثوقة، تتيح خدمات للمجتمع للبحث عن المشورة والرأي الذي تحتاج إليه أو حتى التحدث لأجل الحديث، دون أن ننسى ما قاله الشاعر محمود درويش: «لا تكثروا من الفضفضة، فإنكم لا تدرون متى يخون المنصتون!».