حرصت على مشاهدة محاضرة سعد البازعي، التي قدمها مؤخرا في نادي الكتاب، وتتناول الشك المنهجي عند ديكارت. سبب حرصي يعود لأهمية الضيف من جهة، فهو أحد الكُتاب والباحثين المهمين في الشأن الثقافي والفكري في الساحة المحلية، ومن جهة أخرى محتوى المحاضرة الذي يتناول موضوعا مهما للغاية، وهو الشك الديكارتي.

كنت أمني النفس بأن يحرك البازعي المياه الراكدة، ويتناول الموضوع من زاوية جديدة تثير التساؤل حول المسلمات الراسخة عن الشك الديكارتي، الذي ينظر إليه في الأوساط الثقافية العربية باعتباره رأس سنام العقلانية والحداثة والتنوير.

لم يأت البازعي بجديد، فما قدمه أشبه بملخص مأخوذ من كتاب مدرسي (Text Book) يقدم معلومات قياسية (Standard) عن ديكارت ومنهجه. ما قدمه لا يخرج عن الصورة النمطية عن الشك الديكارتي، ولم يبدد تلك الهالة القدسية المحيطة بديكارت، أو يضيف جديدا عليها. وكعادة كثير من الباحثين العرب عند تناولهم الموضوعات الفلسفية، فإنهم يخرجونها عن سياقاتها الدينية والثقافية، ويقدمونها بصورة عقلانية محضة، وكأنها مشترك إنساني غير مرتبط بثقافة بعينها، فالعقلانية الديكارتية، ممثلة في الشك الديكارتي، لا تخرج في حقيقة الأمر عن كونها عقائد مسيحية تخفي وراءها اتجاهات ديكارت اللاهوتية، حيث لم يستطع ديكارت عندما بشر بمنهجه الجديد أن يتخلص من رؤيته الدينية أو يتحرر منها أو حتى يشك فيها.

الشك الديكارتي، خلافا لما طرحه البازعي في محاضرته، شك مصطنع وليس شكا حقيقيا، شك معروفة نتائجه مسبقا، فديكارت يعلم النتيجة التي سيصل إليها من وراء شكوكه الافتراضية، وكأنه مؤلف رواية يعرف السيناريو والحبكة وخاتمة القصة، فهو لم يشك إطلاقا في عقائده الدينية غير المفهومة والغامضة، بل قدمها باعتبارها مسلمات راسخة، وغير قابلة للشك، ويقدم الحجج والبراهين التقليدية، لتسويغ التسليم بها، فالشك الديكارتي منبعه الإيمان بوجود شيطان ماكر لا يضلل حواسنا فحسب، بل يتلاعب بعقولنا، ويجعلنا نشك بوجودنا، ولا نفرق بين الحلم واليقظة، وأن الأحداث الواقعية التي نعيشها ليست إلا وهما من صنع الشيطان، صاحب القدرة الكلية في تضليل البشر، ويستحضر ديكارت في تأملاته أطروحات العقيدة المسيحية الكاثوليكية في كيفية مواجهة الشيطان الماكر.

من الغريب أن فيلسوفا عقلانيا، يعرف باعتباره أبو الفلسفة الحديثة، يقدم منهجا لا يترابط أو يتسق دون افتراض وجود شيطان ماكر، ولا يمكن مواجهة هذا الشيطان لا بالعقل ولا الفكر أو بواسطة مبدأ الأنا (أفكر) أو المبادئ والحسابات الرياضية، بل بالضمان الإلهي الذي يردده ديكارت في تأملاته، ويعول عليه كثيرا في معالجة جوانب القصور في منهجه القائم أساسا على عقائد دينية راسخة في ذهنه، ورثها عن أسلافه، وهنا يقول: «ينبغي ألا أشك مطلقا في تلك التمثلات، إذ أهبت بجميع حواسي وذاكرتي وإدراكي لاختبارها، فلم ينقل إلى أحدها ما ينافي ما ينقله إلى سائرها، لأنه يلزم من أن الله ليس بمضل أني لا أكون في ذلك من الضالين».

لم يهدم ديكارت كل ما آمن به ليبدأ من الصفر، حيث إن إيمانه بمعتقداته الدينية كان حاضرا منذ اللحظة الأولى في بناء منهجه، وهو ملاذه الأول لمواجهة الشيطان الماكر، وليس العقل أو الفكر أو الأنا المفكرة، كما يشاع. ولا يمكن تحقيق النجاة الفلسفية إلا بتحقيق النجاة الدينية مقدما، وليس عن طريق الإيمان بالرياضيات أو الحسابات الرياضية غير القابلة للشك، كما ذكر البازعي في محاضرته، فالشك عند ديكارت يعادل الشر أو الشيطان الماكر، والشيطان في الأديان السماوية يحمل صفات متباينة وأدوارا مختلفة، واختلافه بينها جوهري، يدخل في كيان كل ديانة منها، وشيطان ديكارت يمتلك قوة كلية قادرة على التلاعب بالأفكار والتجارب والتصورات بطريقة تجعل كل ما يبدو حقيقيا غير موجود على الإطلاق.