خلق البشر مختلفين من ناحية الشكل والطبع والعادات، حتى على مستوى الأكل واللبس تظهر اختلافاتهم، فلا يوجد مثلا لون أو قياس واحد يناسب كل الناس، فما بالك عندما يكون الموضوع متعلقا بشيء أساسي مرتبط بحياة الناس وصحتهم !

جرت العادة سابقا على إعطاء الناس العلاجات والدواء بناء على العمر والوزن، لكن كنا في تلك الأيام قبل سنوات طويلة نستغرب ! لو كان الموضوع أن الدواء يعطى على الوزن، لما شاهدنا مريضا نحيفا جدا، وجرعته من مسيل الدم أضعاف جرعة مريض سمين، وربما حجم السمين ضعف حجم المريض الآخر وجرعته أقل من نصفه !

كانت هناك تفاسير لذلك لكن مع تطور الطب، وخصوصا بعد مشروع الجينوم البشري وفك أسراره، وأيضا تطور وسرعة عمل التسلسل الجيني الذي أصبح يستغرق ساعات على خلاف ما كان يأخذ سنوات وأشهرًا، ومع تطور علم الصيدلة الوراثية أو ما يعرف بـ Pharmacogenomics يدرس تأثير الجينات في استجابة الفرد للأدوية.

فهو يحاول فهم كيف يمكن للوراثة أن تؤثر في استجابة الأفراد للأدوية، بما في ذلك فهم الطرق التي يتعامل بها الجسم مع الأدوية وامتصاصها وتحويلها إلى مستحضرات فعالة.

باستخدام المعلومات الجينية، يمكن لعلم الصيدلة الوراثية تحديد الجرعات المثلى للأدوية، وتوفير العلاج المخصص لكل فرد بناءً على تكوينه الجيني الفردي! فهو يساعد في تحسين الرعاية الصحية والحد من التجارب والأعراض الجانبية غير المرغوب فيها. وكما قلنا سابقًا إن الأشخاص يختلفون في استجابتهم للأدوية بناءً على تركيب جيني محدد، ولذلك من المفروض (تفصيل أدويتك على مقاس جيناتك) فما يناسبك قد لا يناسب غيرك والعكس صحيح، وجرعة دوائك قد تكون ضعف غيرك مع أنكما بالحجم والوزن نفسه، أو تكون نصفه رغم تشابه وزنيكما !

ولنضرب بعض الأمثلة للتوضيح: في بداية المقال ذكرنا الاستغراب عن مسيل الدم (الورفارين) وكيف أن البعض يحتاج جرعات عالية وهو قليل الوزن والعكس صحيح، والآن نعرف أن هناك جينات معينة تؤثر في استقلاب الورفارين مما يوثر في الجرعة. مضادات حيوية مثل (الايروثروماسين) و (الازيثرمايسين) تتأثر ببعض الجينات، وبناء عليه يجب تغيير الجرعة لتقليل الآثار الجانبية. علاجات الصرع مثل (الكاربامازيبين)، تتأثر استجابتها بجين معين، الذين يحملون هذا الجين قد يكونون أكثر عرضة لتطور تفاعلات جلدية خطيرة بعد تناوله مضادات التخثر مثل (الكلوبيدوجريل) تتأثر بجين معين مما يوثر في عملية استقلابها !

وكما نرى هذه أدوية معروفة ودارجة ومستخدمة بكثرة، ومع ذلك نلاحظ أن الجينات تلعب دورا كبيرا في تحديد فعاليتها وجرعتها وآثارها !

وليعذرنا القارئ الكريم أننا لم نذكر الأسماء التجارية للأدوية من باب عدم الدعاية، وأيضا لم نذكر أسماء وأنواع الجينات، بسبب أن هذه أمور علمية دقيقة للمختصين، وما يهمنا أن الفكرة وصلت للقارئ. إن الجينات ليست فقط تؤثر في جرعة الدواء، بل هناك أمثلة لأدوية يفضل تجنبها كليا بناء على الجينات ! مثل علاج (ازيثوبراين) وهو علاج مناعي لتثبيط المناعة، الأشخاص الذين يحملون أشكالًا غير فعَّالة لجين معين، قد يكونون أكثر عرضة لتجربة سمية من الدواء.

(ابليموماب)، لعلاج سرطان الجلد، وتتأثر استجابة الفرد لهذا الدواء بجين معين. الأشخاص الذين يحملون طفرات في هذا الجين قد يكونون أكثر عرضة لتطوير آثار جانبية خطيرة.

بعض علاجات الضغط والسكر المستخدمة بكثرة، وبناء على الخريطة الجينية، فإنه يجب تعديلها لكيلا تسبب مشاكل للمريض. حتى الأطعمة يمكن تحديدها من خلال خارطتك الجينية.

حساسية اللاكتوز: هناك الجين المسبب لحساسية اللاكتوز، وجود طفرات في هذا الجين يمكن أن يؤدي إلى نقص إنزيم اللاكتوز الذي يسبب عدم قدرة الجسم على هضمه، وأيضا حساسية الجلوتين لها جينات معينة ! وهكذا دواليك...

هذه أمثلة بسيطة من الكثير جدا من الأمثلة على أهمية الصيدلة الوراثية والتسلسل الجيني.

لا شك لدينا أن علم التسلسل الجيني والصيدلة الوراثية، سيكون جزءا لا يتجزأ من طب المستقبل ومن الرعاية الصحية المستقبلية للمرضى، الأمر مجرد وقت، وسيتم تفصيل الأدوية بناء على الخارطة الجينية للفرد، هذا ولم ندخل بالحسبة بعد (الذكاء الاصطناعي)، فإذا دمجنا الصيدلة الوراثية مع الذكاء الاصطناعي فستنتج عملية دقيقة من (تفصيل العلاج)، وسنرى كثيرا عبارة (صنع خصيصا لعلاج فلان)، كما هي الحال الآن، وما نراه في العلاج الخلوي لبعض الأمراض والسرطان، والتي يتم فيها تصنيع العلاج خصيصا ليناسب مريضا معينا بذاته، لكن مستقبلا ربما تمتد هذه العبارة لأغلب الأقسام والتخصصات الأخرى.