القراءة وسعة الاطلاع على منتجات الآخر الفكرية والأدبية تمنح الكاتب أفقًا أوسع، وتعطيه فرصة تنقل بين ثقافات الشعوب واستلهام ما لديها من إبداع. الكاتب المثقف المطلع على الثقافات يملك حسًا إنسانيًا، وينتقل بهمومه من المحلية إلى فضاء العالمية الواسع. الكاتب المثقف بطبيعته يحترم الثقافات الأخرى، لأن شخصيته عبارة عن خليط من عدة ثقافات حتى إن اتصفت كتاباته بالمحلية وعبرت عن ثقافة مجتمع بعينه.

نجيب محفوظ من الكُتاب العرب المثقفين بلا شك، وتلمس في كتاباته حسًا إنسانيًا رفيعًا وإن كانت رواياته لم تتجاوز مكانيًا محيط الحارة الشعبية، وبوجه خاص في مدينة القاهرة دون سواها من المدن المصرية. يعود ذلك لأنه في واقع الأمر لم يسافر لخارج القاهرة إلا في حالات نادرة، فهو شخصية مستقرة مكانيًا. هذا الاستقرار يفسر الارتباط الوثيق بين أعماله والقاهرة. محفوظ يمثل حالة خاصة في عالم الأدب لأنه اكتسب ثقافته من خلال القراءة وليس من السفر والترحال المستمر والعيش المغترب مع شعوب مختلفة. فهو النقيض لكاتب مثقف آخر هو الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا الذي عاش حياته متنقلًا بين البلدان، فأصبح كاتبًا لا منتميًا وإن كانت رواياته تعبر عن هموم المهاجر الفلسطيني المغترب. لكن أعماله لا تحمل صبغة ثقافية خاصة كما هي الحال مع محفوظ. جبرا إبراهيم إنسان مغترب غير منتم مبعثر بين الثقافات، فكتاباته تحمل مزيجا من المهاجر الفلسطيني والشيوعي العراقي والتاجر اللبناني والنبيل الإنجليزي والتنويري الفرنسي.

شخصيات جبرا الروائية غير محددة ثقافيا ولا تحمل هويات خاصة. نلحظ ذلك في شخصية (وليد مسعود) الذي لا يحمل أي هوية أو بصمة ثقافية خاصة. في المقابل نجد شخصية محفوظ الروائية الشهيرة أحمد عبدالجواد (سي السيد) التي تتمتع بطابع مصري محض، شخصية تعبر عن ثقافة الحارة الشعبية، لذلك كانت شخصيات جبرا إبراهيم الروائية، معقدة للغاية بعكس شخصيات محفوظ التي اكتسبت بساطتها من الحارة الشعبية وبساطة ساكنيها.

يمكن اعتبار أعمال محفوظ وثيقة أنثروبولوجية للمجتمع المصري، وتحديدًا في الأحياء الشعبية بالقاهرة، ويسهل تحويلها لأعمال سينمائية تعكس مظاهر الحياة المصرية، وبواسطة أبطال يتحدثون باللسان المصري، وخلفيات توظف الأدوات الثقافية المصرية في أماكن التصوير، لكن أعمال جبرا إبراهيم ذات الثقافة المحايدة وشخصياته المغتربة منزوعة الهوية يصعب تحويلها لأعمال سينمائية دون أن تفقد الشخصيات طابعها الروائي الأصلي، فهي لا تحمل أي أبعاد ثقافية محددة فضلًا عن تعقيدها من الناحية النفسية والاجتماعية الذي اكتسبته من تعقد العلاقات الإنسانية المتنوعة ثقافيا التي عاشها جبرا من خلال ترحاله واغترابه المستمر.

نفهم من هذا أن فن الرواية كجنس أدبي نجح في تصوير ثقافات الشعوب وتحديد شخصيات كتابها بدقة عالية، فنحن نستطيع اكتشاف أثر حياة السفر والترحال في خطاب الروائي من خلال روائيين بارزين في العالم العربي.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن محفوظ غير مطلع على الآداب العالمية أو غير مهتم بهان فكثير من أعماله الروائية مستلهمة من أعمال عالمية. ونجيب محفوظ وإن كان الأب الروحي للرواية العربية لكنه نجح في نقل تجارب كُتاب عالميين مثل دوستويفسكي والبير كامو وكافكا للثقافة المصرية بكل اقتدار. دون أن يعبر ذلك عن أي هزيمة ثقافية أو تبعية فكرية، فتجربة العبث الوجودي عند كافكا مثلا، خصوصًا في روايتي ( المحاكمة) و( القلعة)، نستطيع تبين ملامحها في بعض روايات محفوظ، ونستطيع اكتشاف ملامح الشبه بين روايتي القلعة لكافكا و( أولاد حارتنا) لمحفوظ وإن كانتا تحملان أبعادا ثقافية مختلفة، وهذا يؤكد أن فن الرواية قادر على التنقل بين ثقافات الشعوب والبلدان ويحافظ على الخصوصية لأي مجتمع والأهم من ذلك قدرتها على الكشف عن الجوانب النفسية العميقة لكتابها. والإحساس بالعبث الوجودي الموجود في أعمال كافكا ونجيب محفوظ لا يمكن أن ينسب للتبعية الفكرية أو الهزيمة الثقافية فهو مرتبط بالمدن الصناعية وثقافة الأسواق، ولا شك أن القاهرة واحدة من أعرق المدن وأقدمها، ومن أوائل المدن التي اعتنقت ثقافة الأسواق وتأثرت بها اجتماعيًا.