احتفل ثعلب السياسة الدولية هنري كيسنجر قبل أسابيع ببلوغه المئة عام، وتصدر ذلك أخبار السياسة، لكن السؤال الذي قد يسأله الجيل الجديد من المهتمين هو: ما يهم العالم بسيرة أو أخبار سياسي متقاعد قديم بلغ من العمر قرنا، وأيضا لم يكن رئيس دولة، بل كان قبل عقود مجرد مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي، وقد مر على هذين المنصبين عشرات السياسيين غيره دون أن يهتم أحد بذكرهم؟!. طبعا كلمة «متقاعد» ضع تحتها خطين، لأن كيسنجر في قمة نشاطه نسبيا لشخص بلغ المئة، حيث ما زال كبار الساسة أو علماء السياسة يستشيرونه ويستأنسون برأيه في الأزمات الدولية والسياسية، وهو يؤلف الكتب، وسيصدر له كتاب خلال الفترة المقبلة.

هل هناك مبالغة في تقدير ذكاء ودهاء كيسنجر؟ الجواب ببساطة: لا، وسأشرح لماذا؟.

لكن قبل ذلك هناك أسطورة أخرى في علم السياسة يعرفها المختصون والعارفون في السياسة الواقعية، وهو العبقري البروفيسور كينيث والتز، الأب الروحي لمدرسة «السياسة الواقعية الجديدة»، الذي وضع الأسس لها. طبعا شهرة والتز ذائعة في الوسط الأكاديمي، لأنه وضع أسسا تمشي عليها السياسة الدولية والنظام العالمي منذ عقود، لكن ربما ليس مشهورا عند العامة مثل كيسنجر بسبب أنه لم يتبوأ منصبا سياسيا عاما، حيث كان تركيزه على الأكاديمية والتحليل السياسي وتدريسه، لكن بينهما تشابه في ميلهما الشديد للسياسة الواقعية مع بعض الفروقات.

صحيح أن والتز درس وحلل ووضع قواعد للسياسة الواقعية الجديدة، لكن كيسنجر كان يمارسها بشكل يومي، حتى قبل كينيث والتز من خلال الموهبة والدهاء.

كما ذكرنا هناك فروقات بين الأسطورتين، منها:

1- النظرية الأساسية: كيسنجر يتبنى الواقعية السياسية، ويشدد على أهمية المصالح الوطنية والسلطة في تشكيل العلاقات الدولية، بينما والتز يتبنى الواقعية التركيبية، حيث يركز على تأثير النظام الدولي، والبيئة البنوية للنظام، وتوزيع القوة بين الدول.

2 - التركيز: كيسنجر يركز بشكل أكبر على القوة والسياسة الخارجية الأمريكية، بينما والتز يركز بشكل أكبر على النظريات العامة للعلاقات الدولية، وتفسير سلوك الدول في النظام الدولي

3 -الأسلوب: يتميز كيسنجر بأسلوبه القوي والواضح في الكتابة والتعبير، بينما يتميز والتز بأسلوبه الأكثر تحليلًا وعمقًا في المناقشة النظرية والأكاديمية.

دعونا نعترف بأننا نميل إلى كينيث والتز، وهو الأب الروحي للمدرسة التي ننتمي إليها في علم السياسة. كما نطلق عليه «المعلم». طبعا لا نتفق معه في كل شىء، لكن نعتقد أن التاريخ سيصنفه بأنه معلم السياسة الذي لا بد منه لكل من أراد أن يتعلم أساسيات السياسة والواقعية البعيدة عن الشعارات الوهمية غير القابلة للتطبيق أو قيادة الأمم.

الآن نرجع لإجابة السؤال الذي سألناه: هل هناك مبالغة في دهاء كيسنجر إلى الحد الذي يجعل الناس إلى الآن يستشيرونه في الأمور الدولية؟، وكانت الإجابة: فعلا هو يستحق ذلك.

أرجع إلى الأزمات الدولية التي حدثت للعالم خلال عقود، وأرجع إلى آراء كيسنجر فيها، وكيف يحللها، فتجد الرجل موهوبا في اختيار الإجابات الصحيحة، والتفاسير الواقعية للأمور، على الرغم من كل ما يحدث من تشويش وآراء مع كل أزمة سياسية كبرى حول العالم، إذ ستجد أن رأي كيسنجر غالبا في المكان الصحيح.

عندما بدأ ما يسمى «الربيع العربي»، أو بالأصح «الخريف العربي»، كتبت بحثا أكاديميا باللغة الإنجليزية، نُشر في مجلة «العلوم السياسية»، أفند فيه كيف يكون الخريف العربي موجة ديمقراطية؟!، ووضعت استنتاجي بناء على عدة عوامل، وقارنت بين موجات الديمقراطية التي مرت في العالم أو ما يسمى «الموجات الثلاث» وبين موجة «الخريف العربي»، فوجدت اختلافا كبيرا بينهما، ولا يتشابهان إلا في عنصر واحد، وهو كرة الثلج. طبعا وقتها هذا الكلام كان غير مستحب، خصوصا أن الإعلام الغربي والعالمي كان ينفخ في موجة الخريف العربي، ودخلنا في نقاش مطول مع بعض الأكاديميين الأجانب وقتها حول كيف ندعي أن الخريف العربي ليس موجة ديمقراطية؟!، وسمينا البحث «الموجة الرابعة أم الموجة الخاطئة!؟».

على الرغم من كل البروباغندا الغربية وقتها، كان رأي كيسنجر واضحا وصريحا أن الخريف العربي لم يكن موجة ديمقراطية، مما أزعج الكثير من الغربيين، والأمثلة على دهاء كيسنجر عديدة.

نصيحتنا لمن أراد أن يتعلم السياسة الواقعية من الجيل الجديد من خريجي السياسة هي: إذا استعصى عليه فهم قضية سياسية معينة فما عليه إلا أن يبحث عن رأي كيسنجر فيها، إن وجد!.

(طبعا رأي كيسنجر ليس كاملا، وقد يحتمل الخطأ، لكن غالبا يكون صحيحا)، ومن أراد أن يكون مبدعا أكثر في تحليله فعليه أن يستخدم قواعد ومبادى المعلم كينيث والتز.