ما شكا أبو العلاء الآفة إلا لمحا، وغاية ما قاله عنها نثرًا مما ينطوي على التشكي هو ذلك التعبير الكريم المترفع «وأنا مستطيع بغيري». أما في الشعر فقد كشف بعض بثه حين روى أن عاهته هي أول شجونه، تتقدم في ذلك لزومه بيته وكون نفسه في جسمه الخبيث. ولا أريد بذلك أن أقرر أن هذين الخاطرين وحدهما هما كل ما روي لأبي العلاء من سوانح في هذا السبيل، ولكن تجدر الإشارة إلى أن النية تختلف بلا شك.

بين هذين الخاطرين اللذين أشرت إليهما وبين قوله:

وبصير الأقوام مثلي أعمى

فهموا في حندس تتلاطم

أو قوله:

أنا أعمى فكيف أهدي إلى النهج

والناس كلهم عميان

والعصا للضرير خير من القائد

فيه الفجور والعصيان

فإن أبا العلاء في هذه الأبيات وسواها لا يأسى لنفسه، ولا يتحزن.

ولم يكن أبو العلاء على أي حال ممن يبالغون في التأسي على أنفسهم. فقد كانت الكرامة عنده هي مناط شخصيته وملاك أمره في قوله وفعله.

وأبو العلاء ملمح فريد من ملامح التراث العربي، ولو أردنا إجمال خطى تطوره الفني لقلنا إنه نشأ كما ينشأ الشعراء، حافظًا راويًا لعيون الشعر العربي مفتونًا كناشئة زمانه بذلك الشاعر الذي هبط أرض الشعر

العربي كالزوبعة، فملأ الدنيا وشغل الناس.

وأغلب ظني أن فتنة أبا العلاء بالمتنبي لم تكن بشاعريته وأسلوبه فحسب، بل كانت بحياته القلقة العاصفة أيضًا «كأن الريح تحته يصرفها يمينًا أو شمالًا»، وربما كان معاصرو أبي العلاء يعرفون عن وقائع حياة المتنبي أكثر مما نعرف فقد كان العهد به قريبًا، وكانت أصداء فعاله وموافقه ما زالت تتردد في نواحي حلب التي عاش فيها زمنا، وربما كان معاصرو أبي العلاء أيضًا لا يختلفون في نوازع المتنبي الدينية والسياسية كما نختلف نحن الآن، فننسبه حينًا إلى العلوية أو القرمطية أو غيرهما، فلقد كانوا على الأرجح يدركون ما كان يعنيه أبوالطيب بقوله في رثاء جدته:

ولو لم تكوني بنت أكرم والد

لكان أباك الضخم كونك لي أما

وكانوا يدركون - على الأرجح كذلك - من هم قومه أولئك الذين بهم فخر كل من نطق الضاد وغوث الجاني والطريق، وكانوا يعرفون ربما - ما ذلك الحق الذي يعنيه ويعقد العزم على طلبه في قوله:

اطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهم من طول ما التثموا مرد

كان أبو الطيب يريد أن يصنع من حياته مجدًا من أعداد الأفعال. الا من أعياد الأقوال، وكان يتخذ المقال سبيلا إلى التميز حتى يفتح له باب الإمارة والملك، وهو قد طلبها بالخروج والانتفاض على الدولة الكائنة في شبابه، ثم طلبها بالتقرب إلى الدولة الكائنة في شيخوخته. وكأنه قد طامنت الأيام من غلوائه، وأقنعته كما تقنع معظم الطموحين أن الغايات تبرر الوسائل، حتى لقد أصبح يرى أن أخلاق التسامح والرضا من خدعة الطبع اللثيم.

ولا شك أن أبا العلاء قد تأثر في شبابه لا بشعر المتنبي فحسب، بل باندفاع نفسه العاصفة، ومن ذلك الذي يقرأ المتنبي في شبابه ولا يقع في أسره ذوقًا وروحًا، إن للمتنبي فتنة كفتنة الحب الأول، فهو يخيل لقارئه أن كل مطمح في الحياة دان قريب ما دامت تلك القوة التي تحتوي العاطفة، والبأس الذي ينكر العطف، وما عطف أو عاطفة يسبغان على «أهيل» هذا الزمان وغيره من الأزمان، إذا كان أعلمهم ندمًا وأحزمهم وغدًا، وأكرمهم كلبًا وأبصرهم أعمى وأسهدهم فهدأ وأشجعهم قردًا (وما زاد كاتب المقال في هذه الأوصاف القاسية كلها على المتنبي حرفًا واحدًا)!

وتطالعنا في صفحات «سقط الزند» أولى مجموعتي أبي العلاء أبيات كثيرة متنبية المنبع، وما أخال إلا أن أبا العلاء كان ينكر ما فيها من استعلاء وإسراف لو رويت له في شيخوخته الحكيمة المتطامنة، ولا نستشهد هنا بمطلعه المأثور «الا في سبيل المجد ما أنا فاعل» فذلك المطلع أشهر من أن نذكره، ولنذكر أبياتًا أخرى له كثيرة، فيها ما هو أكثر غلوًا في الخيلاء من ذلك المطلع المحظوظ.

يقول أبو العلاء:

أفوق البدر يوضع لي مهاد

أم الجوزاء تحت يدي وساد

قنعت، فخلت أن البدر دوني

وسیان التقنع والجهاد

ولا شك أن الأبيات السالفة ستستوقف قارئ أبي العلاء الذي ألفه في مجموعته الشعرية الثانية (اللزوميات).. وربما رأى فيها المتنبي أكثر مما يرى أبا العلاء. وما ظنك بشاعر يقول عن خصمه «ابن اللئيمة» ويصف القوم الذين يبغضهم بالطعام، وتلك كلمة مما أحب المتنبي أن يصف به الناس جميعًا، وربما حلا لهذا القارئ ، الذي ألف أبا العلاء أن يرفع في وجه هذه الأبيات أبياته الجليلة المتواضعة.

بل لقد يحلو لهذا القارئ الآلف لشعر أبي العلاء في لزومياته أن يخرج من عالم الأبيات الأولى المقعقع إلى هذا النغم الواهن بما يشيع فيه من شعور مرهف منكسر وحزن هادئ ممتد.

متى أدرك هذا الشعور المرهف المنكسر. وهذا الحزن الهادي الممتد روح الشاعر، فمال به عن ظل المتنبي إلى ظل نفسه، وعكف عندئذ على هذه النفس يتأملها فيمعن في التأمل حتى تتكشف له، فإذا هي نفس زاهدة متوحدة قائمة بجهدها في الوصول إلى حال من الصفاء والتنزه عن الغرض في القول وعن العرض من النعيم.

1979*

* شاعر وكاتب مصري «1931- 1981»