عصفت بأوروبا في القرن التاسع عشر أفكار ثورية، تصدّرت الشيوعية أخبارها، إذ كانت تهديدًا لمختلف الأنظمة السياسية والاجتماعية، وعبّرت عن هذا فاتحة البيان الشيوعي (1848): «إنَّ شبحًا يرعب أوروبا هو شبح الشيوعية»، الحزب الشيوعي ملحد لا يؤمن بخالق، ومع توليه السلطة في روسيا وتأسيسه الاتحاد السوفيتي ترقّب العالم حالة الأخلاق التي ستكون في ظل دولة تتبنى الإلحاد رسميًا، وتحارب كل دعاية لأي دين، فإذا بستالين الزعيم الحديدي للاتحاد يصدر قوانينه في حظر المثلية الجنسية (1933).

واشتدت الحرب الباردة، كانت الدعاية الأيدلوجية والسياسية ترتكز في شق كبير منها على الأخلاق المختلفة بين المنظومتين، في الشرق الاشتراكي، والغرب الرأسمالي، فهاجمت كل منظومة خصمها واتهمته بالتحلل الأخلاقي، ولم يرد أي طرف أن يسجّل على نفسه نقطة تنفر الناس عن دعوته، وتمنح خصمه أنصارًا جددًا، فسعى كل واحد منهما لإظهار نفسه على أنه من يحمل همَّ العالَم، وأنه صاحب رسالة تاريخية، فسوّق الشيوعيون لأنفسهم على أنهم رعاة العدالة الاجتماعية، وقادة الثورية التي تريد التغيير لمصلحة الناس، في حين نظر الرأسماليون لأنفسهم على أنهم مؤسسو مفاهيم الحرية، وحقوق الإنسان وصيانتها.

لكنَّ العصر الأيدلوجي انتهى، بانهيار الاتحاد السوفييتي، ولم تعد القيم الأخلاقية طرفًا كبيرًا في الدعاية كما كان الحال أيام تسجيل المواقف المتبادلة، حين كان الملحدون في الاتحاد السوفيتي لا يفتحون مجال الفوضى الجنسية، ويقابلهم المجتمع الغربي الذي يؤكد تمسكه بقيم الأسرة، حتى وصل الأمر إلى أحزاب اليسار الليبرالي التي بدأ نشاطها كأنه بديل أو تعويض عن الصراع الأيدلوجي الذي اشتد في القرن العشرين حول النظام الاقتصادي، وطريقة الحكم الأفضل للعالَم، بالحديث عن المناخ، وصولًا إلى المثلية، وبلغ الأمر بهم في العديد من الدول إلى إنزال الأعلام الوطنية واستبدالها بعلم المثلية.

ويمكن إرجاع المسألة إلى جذور تراثية في حضارة الإغريق، ومعلوم أنَّ الثقافة الأوروبية في غمرة انسحابها من سيطرة الكنيسة كانت تقترب أكثر إلى الإغريق وثقافتهم، ومن أشهر المنظرين إلى العودة إلى الكثير من المفاهيم الإغريقية الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي رأى بأنَّه قد تجسّد في الإغريق العنفوان الذي دفنته المسيحية في الشخصية الأوروبية، ومن أشهر الفلاسفة في القرن العشرين وهو امتداد لنيتشه إلى حد ما، الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي سلّط الضوء على حياة الإغريق الجنسية، وأظهر أنهم لم يكونوا يرون في المثلية عارًا، أو عيبًا.

وبهذا صُورت المثلية على أنها امتداد ثقافي من أيام الإغريق وصولًا إلى الحياة الغربية، وتم إضفاء هالة من الحقوق السياسية على تشريعها بزعم أن ذلك يتضمن منح الأفراد سقفًا أعلى في حرياتهم، فيمكنهم إن يغيّروا جنسهم متى يريدون ذلك، بل إنَّ الدولة قد تعطيهم منحًا مالية لمساعدتهم في هذا، في تجاهل كامل لحقائق العلم بأنَّ الجنس ينقسم إلى ذكر أو أنثى، فرأوا في هذا كراهية ورهابًا بغيضًا، فلا بد أن يكون الخيار مفتوحًا على احتمالات كثيرة، تتبع ما يعتقده المرء عن نفسه، لا ما تثبته الحقائق، وتمتزج هذه النظرة ما بين التوجه السياسي المتطرف في الليبرالية، والسعي لإيجاد عناصر تاريخية في التراث الإغريقي تؤيد المثلية، لتكوّن في نظر أنصارها معيارًا يحدد حقوق البشر في كل المجتمعات، حتى أضحت مظهرًا صارخًا لجعل هذه المسألة سلاح إكراه ثقافي، يعتمد على مركزية الإغريق، والإعلاء من شأن تصورات اليسار الليبرالي.

مؤخرًا انتشر مقطع مسجّل لمدرِّسة توبّخ طالبًا في إحدى المدارس الكندية، فتقول له: لمَ تريد الانسحاب من حفل المثليين؟ نحن احتفلنا معك في رمضان، فلم لا تكسب احترامك، وتحتفل مع المثليين، ثم تنهي كلامها بأنه إن لم يقبل بهذا فإنه لا يمكن أن يكون مواطنًا كنديًا، أي: إنها ترفض حقه بالرفض، فترى أن انسحابه من حفل مثليين لا يتعلق بحريته، ولا يمكنه أن يرفض ما يُملى عليه، وإلا لن يكون مواطنًا، رغم أنها لا يتهمها أحدٌ بالكراهية إن لم تحتفل برمضان أو تصومه وهي غير مسلمة، فتضحي المثلية سلاح إكراه ثقافي كما استعمل في دول غربية في وجه من يرفضها بالتشكيك فيهم بأنهم ليسوا مواطنين، يستعمل كذلك مع دول العالَم التي تخالف هذا التوجه، دون أي احترام لأي ثقافة تخالف هذا.