الآية الكريمة «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها» من أكثر الآيات تأثيرا في الفكر الإسلامي، فقد أثارت جدلا واسعا وخلقت مسائل كلامية حامية بين الفقهاء العرب في محاولة لتحديد حقيقة الأسماء والصفات. وقادت نحو انقسامهم وتوزعهم بين مذاهب ومدارس عديدة. تمثل الآية جزءا مهما في عقيدة المسلم وتحدد نظرته لخالقه ومدبر أموره وبالتالي تحدد طبيعة إيمانه تجاه قضايا الكون والحياة والوجود. وكان النص القرآني المصدر الأول والأكثر موثوقية للوصول لأي حقيقة إيمانية لذا كانت كل الجهود والدراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية تتمركز حول النص القرآني في سبيل فهمه وتدبر آياته.

في طرف آخر، هناك الفلاسفة وهم يحملون هموم الفقهاء نفسها، فهم يحملون معتقدات وحقائق دينية يؤمنون بها ويسعون حثيثا لتأكيدها وإقامة البرهان عليها، وأي منهجية فلسفية يتبنونها فهي في نهاية المطاف وسيلة للوصول للحقائق الإيمانية المرتبطة بمعتقداتهم الدينية. فلماذا غابت الفلسفة اليوم في أوروبا باعتبار الفلسفة موروثا دينيا للشعوب الأوروبية، فالفلسفة تواجه تهميشا كبيرا وحضورها في المؤسسات التعليمية والتربوية في القارة الأوروبية يتقلص تدريجيا حتى يكاد يكون معدوما. الفلسفة اليوم لا توجه الفكر والعقل الأوروبي مع حضورها في المخيال الشعبي والإبداعي، ولكنها تظل غير مؤثرة في الحياة العامة، ولا توجه الفكر والمناهج العلمية والبحثية.

فكل ما يحيط بالمؤسسات التربوية والتعليمية يوحي بموت الفلسفة وغيابها عن مجال الحياة اليومي، فهل ماتت الفلسفة بالفعل؟ وإذا كانت الفلسفة ماتت فهل يمكن إعادة بعثها من جديد وإعادة الاعتبار لها؟ علينا أن نعي جيدا أن الفلسفة تعيش اليوم في عالم شكلته الرأسمالية الصناعية، فكيف للفلسفة العيش في عالم اليوم إذا قلنا إنها مجرد موروث ديني للشعوب اليونانية والمسيحية، أو لنصوغ السؤال بطريقة أخرى: من يحتاج اليوم للفلسفة؟

إذا كانت الفلسفة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأديان اليونانية والمسيحية، وأوروبا باعتبارها قارة مسيحية كان الدين قديما يمثل فيها نظاما أخلاقيا في المقام الأول يشجع على استقرار المجتمع بخاصة في ما يتعلق بتأسيس الدين قواعد الإيمان وقواعد السلوك والنظام الأخلاقي عند العوام. ولكن الرأسمالية اليوم من خلال تركيزها على عمليات الإنتاج وتنمية الاستهلاك وإشباع رغبات الفرد قلصت من أدوار الدين في حياة الأفراد، وبالتالي فصلت كثيرا من الممارسات الاجتماعية عن قيودها الدينية، وفرضت قيمها الخاصة على الجميع.

الرأسمالية بما تحمله من قيم وثقافة لا تعير أي اهتمام بموروثات الشعوب الثقافية، ولا تقيم وزنا لمعتقداتها الدينية، لذلك ينحسر وجود الفلسفة في المجتمعات الأوروبية المسيحية باعتبارها مناهج وأفكارا لتأويل المعتقدات وترسيخ الإيمان الديني عند الأفراد. والفلسفة كي تعود لمكانتها السابقة في القرون الوسطى وعصر ما قبل الرأسمالية فإنها أمام خيارين: إما مجابهة السوق وثقافته وهي بلا شك حرب خاسرة مسبقا، وإما أن عليها مواءمة السوق والسير وفق قوانينه، أي تتحول إلى منتج يباع ويستهلك في سوق العمل، وتخضع لقوانين الربح والخسارة والعرض والطلب، وهذا سيخرجها من سياقاتها الدينية ويفرغها من مضامينها الجوهرية. والسوق اليوم تزخر بدورات تعليم الصغار والكبار التفكير الناقد وكيف تصنع من طفلك فيلسوفا صغيرا وكتب تطوير الذات بواسطة الفلسفة. وكلها توظف الفلسفة شكليا ولكنها بعيدة كل البعد عن حقيقة وواقع الفلسفة.

الفلسفة ظاهرة مرتبطة بظهور الأديان وتفاعل المدارس الدينية واختلافاتها، ومن الصعب أن تتحول إلى منتج يباع في السوق، فهي يمكن أن تعود إلى السطح من جديد وتفرض نفسها على الفضاء العام في المجتمعات الأوروبية الغارقة في عالم الماديات. فالبشر مهما انهمكوا في العمل والفردانية والبحث عن النجاح الدنيوي، هناك جانب روحاني لا يمكن إشباعه عن طريقة سوق العمل وثقافة الاستهلاك.