نمت الثقافة الأدبية السعودية بشكل ملحوظ بدءًا من ثمانينات القرن الماضي. ومنذئذ أصبحت الحركة الأدبية السعودية معروفة على نطاق عربي واسع، وبرز شعراء وقاصون وروائيون ونقاد معروفون، لا تكاد تخلو فعالية أدبية عربية منهم. وعلى النظير نمت الثقافة الشعبية، وبرز شعراء شعبيون، وتبلورت حركة ثقافية بشقيها الشعبي والفصيح تحتاج إلى من يدرسها لا سيما أسباب بروزها ثم أسباب انحسارها.

وأنا أفكر في فهم حركتنا الثقافية يمكن القول بشكل عام إن هذه الحركة بشقيها الفصيح والشعبي استندت إلى قضية أولية من دون أن يكون لهذه القضية برهان أو دليل، أعني ما يشبه بدهية قامت على أساسها المعرفة الأدبية. ولو ضيقت مجال هذه القضية في الشعر لوجدنا أن هناك نوعين من الشعر أحدهما الفصيح والآخر الشعبي، وما يرادف هذا الوصف العام النبطي أو العامي. وعلى حد علمي فإن لا أحد نظر إلى هذا التقسيم نظرة تحوله من تقسيم واضح إلى تقسيم إشكالي بحيث يكون موضوع مقاربات نقدية، لا سيما أن معرفة استندت إلى هذا التقسيم في معالجة الموضوعات الأدبية ونشر النصوص الشعرية، واتجاهات الصفحات الثقافية (الشعبية/ الثقافية).

لم يسأل أحد: ما أصل هذا التقسيم؟ ما الآفاق المعرفية التي جاء منها؟ ما العمليات التي تشكل من خلالها؟ كيف ينظر الشاعر الشعبي أو شاعر الفصحى إلى نفسه؟ هل هناك فرق في تصورهما للشعر؟ كيف فقد الشاعران تشابههما من حيث إنهما شاعران ومبدعان؟ كيف فقدت قصيدتاهما تشابهما إبداعيًا؟ في واقع الأمر يجب ألا يخدعنا ما قيل عن التقسيمات الاجتماعية إلى طبقات (مثلا خاصة/ عامة) وعلاقتها بالمستوى الثقافي (مثلا ثقافة العامة/ ثقافة الخاصة) باعتبار هذه العلاقة أصلا لتقسيم الشعر إلى شعبي وفصيح، فمن الخاصة (إن لم أقل خاصة الخاصة) شعراء كثُر كتبوا الشعر الشعبي وبجماليات عالية. وفي الوقت ذاته هناك من العامة (ضد الخاصة) شعراء كتبوا شعرًا فصيحًا وبجماليات عالية. فضلًا عن ذلك لا أظن أن التعليم له علاقة بهذا التقسيم، فهناك شعراء شعبيون متعلمون ويحملون شهادات عالية، وفي المقابل هناك من شعراء الفصحى من هو أقل تعليمًا بكثير. وأخيرًا لا أظن أن شعراء الفصحى مرتبطون بالثقافة وعلى علاقة بها، وفي الوقت ذاته شعراء الشعر الشعبي أقل علاقة بها، فهناك شعراء شعبيون مثقفون ومتعلمون وإن ذكرت منهم أحدًا فلن يغيب عني الآن مثل لذلك كفهد عافت أو الحميدي الثقفي.

يمكن القول إذن إن العلاقة بين مستويات اجتماعية ومستويات ثقافية لا تصلح أساسًا لتقسيم الشعر إلى شعبي وفصيح. بقي لنا أن نتحدث عن أساس آخر استند إليه التقسيم وهو اللغة وكونها فصيحة أو عامية. لكن كون نوع من الشعر فصيحًا وآخر شعبيًا لا يخرج أحدهما من أن يمثل اللغة التي كُتبت بها نصوص النوعين؛ فإن كُتب الشعر الفصيح باللغة العربية، فلا أحد يستطيع أن ينفي عن الشعر الشعبي لغته العربية. وبالتالي حقه في أن يكون مساويًا للشعر الفصيح في القيمة الثقافية للمجتمع.

يمكن القول إذن إنهما ينتميان إلى العربية، والفرق بينهما ليس في اللغة بل في مستويات اللغة. قد يكون هذا الفرق بسيطًا، وقد يراه البعض دون المستوى العقلي والمعرفي للنقاش لقضية يعتبرونها قضية كبرى من قضايانا الثقافية. لكن أثره مدمر على الثقافة المحلية بشكل عام. يتبلور هذا التدمير في فكرة هي أن الشعر الفصيح بسبب علاقته بمستوى معين من اللغة العربية هو الأقدر بالتعبير عن وعي الجماعة. وأن شعراء الفصحى هم الأقدر لأنهم يكتبون بمستوى لغوي معين لذلك فهم الذين يعبرون عن وعي الجماعة. وفي المقابل فالشعر الشعبي وبسبب علاقته بمستوى لغوي ليس أهلًا لأن يعبر عن وعي الجماعة، وأن الشعراء الشعبيين في علاقتهم بمستوى معين من اللغة العربية لا يمكن أن يعبروا عن وعي الجماعة.

ترتب على هذه الفكرة نوع من التعصّب للشعر الفصيح، ونظرت إليه الجماعة الأدبية على أنه يمثل الثقافة الأعلى من قيم المجتمع الجمالية، وهو الذي يجب أن يكون ممثلًا لأصالة الجماعة، وحاملًا لقيمها. ولأنه كذلك فيجب أن تكون النصوص الأساسية منتمية إليه، وأن يختار من نصوصه ما يدرس في المدارس والجامعات. وأن تضم الكتب الدراسية تراجم لشعرائه. في المقابل فإن الشعر الشعبي، وبسبب علاقته بمستوى لغوي معين لا يستحق أن تكون منه نصوص أساسية، ولا يجب أن ننتقي منه نصوصًا لتُدرس في المدارس أو الجامعات. ولا يجب أن يدرج أي ترجمة لأي شاعر شعبي مهما كان بارزًا.

ما الحل إذن؟ من المناسب أولًا أن نحسن تصورنا لما نسميه (اللهجة)؛ فهي مستوى من مستويات اللغة العربية. وأن نعرف أن مجال استخدامها أوسع بكثير جدًا من استخدام المستوى الذي نسميه الفصيح. وأن تفكر الجماعة الأدبية التي لا ترى الشعر الشعبي ممثلًا لوعي المجتمع أنها تستخدم هذا المستوى من اللغة العربية أكثر بكثير من استخدامها المستوى الفصيح، وأنها لا تلجأ إلى المستوى الفصيح إلا في حالات شاذة في حياتها اليومية كالمناسبات الرسمية والمحاضرات والندوات وكتابة هذا الشعر.

علاوة على ذلك من المناسب ألا ننظر إلى الإبداع استنادًا إلى التراتبية في المستويات اللغوية، وألا نفهم هذه التراتبية في المستويات التي نعبر عنها بشكل عام (فصحى/ عامية) على أنهما مستويان لغويان محددان مسبقًا، ومرتبطان بقيم ثقافية مرغوبة أو غير مرغوبة. فشعراء الفصحى والعامية يكتبون بلغة واحدة لكن بمستويات مختلفة. والقراء هم الذين يحولونها إلى نصوص شعرية فعلًا. وهذا الأمر له علاقة بالقراءة؛ فالقراءة ليست عملية مجردة، بل انخراط القارئ في مجال إبداعي، وفي علاقة مع الذات أو الغير، وهذا موجود في النص سواء أكان شعبيًا أم فصيحًا. وإذا ما عرفنا أن لا وجود لنص دون اللغة التي يقرؤه بها القارئ، فالنزعة الاختزالية لقيمة اللغة التي يُكتب بها الشعر الفصيح غير مفيدة للثقافة بشكل عام.

إن موت لهجة محلية يفقر تراثنا الوطني. نفقد شعرها وحكاياتها وأساطيرها. والتعددية اللغوية فكرة مناسبة. ولا يوجد مبرر للرهاب من خطر اللهجات على الفصحى، ولا من خطر الشعر الشعبي على الشعر الفصيح؛ فاللغة هي الشعب، وكما أن الشعب لا يضر نفسه، فإن اللغة لا تضر نفسها.