تحدثت في مقالٍ سابق عن تخطيط التعاقب في المنشآت العائلية، التي نتفق جميعا بأنَّه لا يمكن إنكار أهميتها كمكون من مكونات الاقتصاد؛ وذلك لما تحققه من إيرادات كبيرة جدا تدعم الناتج المحلي، ناهيك عن دورها في توفير فرص وظيفية لأبناء وبنات الوطن؛ مما يزيد من أهمية دورها في تنمية وازدهار الاقتصاد الوطني. لكن حالها ليس بعيدا عن حال المنشآت الأخرى، إذ تواجه المنشآت العائلية عدة تحديات، يأتي في مقدمتها كيفية التعامل مع الخلافات والنزاعات ضمن إطار العائلة.

في هذا المقال أستعرض لكم بشكل مختصر بعض أسباب النزاعات في المنشآت العائلية، وكيفية التعامل معها.

يعلم أهل الشأن أنَّ إدارة المنشآت العائلية على يد العائلة نفسها قد تحمل معها عبء اختلاف وجهات نظر وآراء أفرادها، كون معايير اتخاذ القرار من قِبل من يدير المنشأة تخضع في كثير من الأحيان إلى العاطفة والمفاضلة، مما يصعب من عملية الحياد عند اتخاذ القرارات، وهذا يخلق بيئة خصبة للنزاعات، مما يهدد مستقبل المنشأة.

وتعد النزاعات في بعض الحالات أمرا لا مفر منه، وتأتي في مراحل متنوعة من دورة حياة المنشأة العائلية، وقد تأتي أحيانا بصورة غير متوقعة مثل وفاة مفاجئة للمؤسـس أو أحد من الأعضاء البارزين فيها، وقد تكون هذه شرارة بداية النزاعات حول كيفية اختيار الشخصية المناسبة التي يجب أن يتم الاتفاق عليها، لكي تتولى مسؤولية إدارة أعمال المنشأة، للحفاظ على كيانها.

وفي أحيان كثيرة قد لا يتم التوافق على شخصية من يدير المنشأة باتفاق جميع أفراد المنشأة العائلية نتيجة الاختلاف في وجهات النظر حول مدى كفاءة وقدرة الشخص البديل الذي سيتولى المسؤولية، وهذا الأمر يحدث ليس بالضرورة بسبب النقص في عامل الخبرة فقط، وإنَّما قد تكون هناك أسباب أخرى بعيدة عن مدى كفاءة الشخص وقدرته، تأتي في مقدمتها الرغبة العاطفية في تعيين أبناء الشركاء في إدارة المنشأة؛ لكون الجميع يرون أن أبناءهم هم الأجدر بالإدارة، مما يعرض المنشأة لخطر الاختلاف في وجهات النظر، ويؤدي إلى نشوء النزاعات بين أفراد الأسرة الواحدة.

ولإيجاد منشأة عائلية تدير أعمالها على أساس مستدام يتعين عليها أن توجد آليات لفصل إدارة المنشأة العائلية عن العائلة، وإيجاد ضوابط عند التعامل بين أفراد العائلة والمنشأة التي يملكونها، ومن المهم أن تضع العائلة معايير واضحة وخطوطا حمراء لا يتم تجاوزها، وتتم مراجعتها بشكل دوري، لجعلها تتوافق مع معطيات المرحلة والزمان المرتبطين بها. فعلى سبيل المثال، قد يتفق الجميع على قاعدة «الإدارة مرتبطة بالكفاءة وليس الانتماء للعائلة فقط»، ومثال آخر «يتم الاتفاق على نسب معينة من توزيعات الأرباح تراعي الظروف المختلفة لأفراد العائلة، وتسمح للمنشأة بإعادة تدوير أرباحها واستثمارها».

وفي كثير من الأحيان تنشأ مشكلة صغيرة لا يمكن السيطرة عليها وحلها، وتجنب تفاقمها، وتحولها إلى خلاف عائلي يضر بالمنشأة ويهدد استمراريتها بسبب ضعف التواصل، وعدم حل مشكلات سابقة أو تأجيلها، فتملك العاطفة زمام الأمر، وتحل محلَّ العقل، مما يصعّب التوافق والوصول لقرارات مشتركة بشكلٍ موضوعي تحقق مصلحة المنشأة.

وتكون المنشأة معرضة أكثر لمثل هذا النوع من الخلافات إذا كان هناك عدم وضوح رؤية أو إستراتيجية أو دستور خاص بالمنشأة والعائلة، حيث يجب تأسيس أدوات حوكمة خاصة تُمكن من حل النزاعات بشكل فعّال.

ومن المهم أن يكون لكل عائلة ميثاق مكتوب، يرسم خططها وبرامجها وهياكلها وآلية تعاقب الأجيال، ويجب أن يحافظ تعاقب الأجيال فيها على تماسك العلاقات الأسرية، ويضمن -بمشيئة الله تعالى- استمرارية ونجاح المنشأة العائلية.

وقد أتاح نظام الشركات الجديد ولوائحه التنفيذية، الذي بدأ تطبيقه في يناير 2023، وضع ميثاق عائلي، لتنظيم الملكية العائلية في المنشأة العائلية من أجل وضع حد للنزاعات، وتطبيق مبادئ الحوكمة والإدارة الحكيمة، بما يحفظ استقرار وكيان المنشأة العائلية، ويسهم في المحافظة على نموها واستمرارية دعمها الاقتصاد الوطني.

ختاما، لقد أدركت الحكومة -وفقها الله لكل خير- أهمية المنشآت العائلية، ودورها في دعم الاقتصاد الوطني، فأجرت عدة تعديلات وإضافات على التشريعات المرتبطة ومنظومة العمل من جميع الجهات ذات العلاقة، لضمان إيجاد بيئة عمل ملائمة تُمكن المنشآت العائلية من النمو والازدهار، وتبعدها عن مخاطر السقوط والانهيار بأمر الله تعالى، وأوجدت ممكنات لحل النزاعات قضائيا أو تحكيميا أو من خلال لجان الصلح. يأتي هنا دور المنشأة العائلية وأفرادها في عدم الدخول في النزاعات بالدرجة الأولى من خلال رفع مستوى الوعي بأهمية بقاء العائلة متماسكة ومترابطة وفق أسس مبنية على الاحترام المتبادل، ونشر ثقافة التسامح والمسئولية بين أفراد العائلة. كما تأتي أهمية التطوير المتواصل، والأخذ بالأسباب في تطبيق أفضل المعايير والممارسات الدولية، والاستعانة بخبراء مؤهلين ومتخصصين؛ مما يؤدي إلى الحفاظ على المنشأة وإرثها وروابطها العائلية وتنميتها، بما يعود بالمنفعة عليها، وعلى الاقتصاد الوطني بإذن الله تعالى.