سئل الأمير محمد بن سلمان في إحدى حواراته بما يشير إلى مرحلة عاشتها المملكة فإجاب: السعودية لم تكن كذلك قبل عام 1979. انتشرت الصحوة في السعودية بعد هذا العام. نحن فقط سنعود إلى ما كنا عليه. لن نضيع ثلاثين سنة من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة. سوف ندمرهم اليوم.

ما الذي كنا عليه قبل عام 1979 وسنعود إليه؟ ما الوسيلة التي ستستخدمها الدولة لتدمير الأفكار المتطرفة؟ لكي أجيب عن هذين السؤالين سأتقدم بفرضية تتعلق بالانفصال الذي حدث بعد عام 1979 بين السلطة؟ بمعنى القدرة على فعل الأشياء وبين السياسة، بمعنى القدرة على تحديد الأفعال الأولية. وأن تدمير الأفكار المتطرفة هو بمنتهى البساطة إعادة توحيد سلطة الدولة وسياستها. وهذا ما حدث فعلا. تحتاج فرضيتنا إلى فهم الصحوة من منظور مختلف عن منظورات أخرى. أهم ما في هذه المنظورات مقاربتان للصحوة في المجتمع السعودي.

تتأسس المقاربة الأولى على وعي الأفراد كما هو تحليل بعض المثقفين كالنقيدان والذايدي وبن بجاد وخالد عضاض الذين يتحدثون في حواراتهم ومقالاتهم عن أثر الصحويين الأفراد كسفر الحوالي وسلمان العودة وعوض القرني وغيرهم.

المقاربة الثانية تتأسس على الخطاب كما هو تحليل بعض الباحثين كسعيد السريحي. سوف أخصص هذه المقالة للتفكير النقدي في هاتين المقاربتين. فمن المهم في بعض الأحيان أن نعود إلى ما ظننا أنه معروف ومدروس بشكل جيد. وأن نوجه مجموعة من الأسئلة توجيها صائبا. هذا الأمر يفيد بشكل خاص في مساءلة خلفية المقاربتين اللتين تريان أن تحولات تاريخنا الثقافي والاجتماعي غير المتوقعة أحيانا مرتبطة بالأفراد أو بالأفكار، وأن تاريخنا يتذبذب بين الوعي الفردي وبين الخطاب للتأثير في تحولاته الاجتماعية والثقافية.

لن أهتم هنا بالاختلافات الجوهرية بين المقاربتين. وسأكتفي بالمهمة التي حددتها لموضوعي وهي أننا ومن أجل أن نفهم التاريخ يمكن النظر إلى الصحوة من زاوية أخرى عسى أن تتضح لنا أبعاد مسكوت عنها.

بطبيعة الحال لن أعيد دراسة النتائج التي أفضت إليها المقاربتان، بل إلى أن أوضح رأيي في المواقف التي نشأت منها مشكلة الصحوة، وسياق الأفكار التي نشأت منها بغض النظر عن النتائج التي توصلت إليها المقاربتان.

سأطرح أسئلة أخرى مثل: هل بإمكان المثقفين أن يبتعدوا - من أجل زاوية أخرى للنظر- عن فكرة خروج الصحوة من علبة وعي الأفراد؟ هل بإمكان الباحثين - من أن أجل أن يجربوا تنويع المواقف- أن يبتعدوا عن فكرة خروجها من صندوق خطاب الصحوة الديني؟ هل بإمكان هؤلاء وأولئك من أجل أن ينوعوا مداخلهم التحليلية أن يستبعدوا فكرة السببية أفرادا أو خطابا ويستبدلونها بفكرة العلاقة (سنتوقف عندها أدناه). ما أنا متأكد منه أنهم لو فعلوا ذلك فستتبلور أسئلة أخرى غير سؤال ما السبب في نشأة الصحوة. أسئلة من نوع: هل هناك عمليات شكلت الصحوة بدلا من رؤيتهم أن الأفراد هم الذين شكلوها؟ ما الآفاق التي جاء منها الصحويون بدلا من رؤيتهم أن خطاب الصحوة هو الذي شكل الصحوة؟ هل بمقدورهم وقد خبروا هذه التجربة أن يوضحوا كيف كان ينظر الصحويون إلى أنفسهم في اللحظة التي بدأت فيها صور المجتمع التقليدي المألوفة (التحديث) تفقد عندهم طابعها الأليف (التقليد)؟

هل بمقدورهم أن يسألوا كيف نظر الصحويون إلى أنفسهم وهم يرون الأشياء فقدت تشابهها مع ما يعرفون؟. لقد بدت لي آراء المثقفين والباحثين ناقصة بسبب تجاهل هذه الأسئلة. فبينما ينظر بعضهم إلى أن الصحوة نشأت بوعي الصحويين الأفراد، ينظر آخرون إلى أن السبب هو خطاب الصحوة الديني.

وهكذا نجد مجالا لم يدرسوه. وما نراه أن أسئلة كهذه ستفضي بنا إلى تأويل مختلف.صحيح أننا لا نستطيع أن نرفض وعي الأفراد في نشأة الصحوة ولا الخطاب الديني، فربما يمثلان جانبا من جوانب الحقيقة. لكني أود أن ألفت النظر إلى أن الباحثين السعوديين والكتاب والصحفيين والمثقفين لم يصلوا بتحليلاتهم إلى مدى أبعد من الأفراد والخطاب.

سيكون كتاب سعيد السريحي «كي لا نصحو ثانية، تفكيك خطاب الصحوة وآليات الهيمنة على المجتمع» المادة الأساسية لتحليلنا، أوالبطل الرئيس إن صح هذا التعبير. سأستشهد بفقرات من الكتاب، وربما أعلق عليها. قد أدقق فيها، وقد أعيد صياغتها انطلاقا من وجهة النظر التي تعنينا. أما لماذا هذا الكتاب فلخبرة السريحي في تحليل الخطاب. فهو أول من دشن دارسات الخطاب في الثقافة السعودية بصدور الطبعة الأولى من كتابه «أركوليوجيا الكرم». ثم استمر ليشكل مكتبة صغيرة ومفيدة لدراسات الخطاب تكمن أهميتها في أنها تكشف تاريخا لمجمل أفكار المجتمع السعودي بدءا بالكرم وانتهاء بالصحوة.

يحلل السريحي النصوص على أنها في المقام الأول صياغة كما في قولنا صاغ مادة أي أظهرها. لكن صياغتها -من جانب آخر - تطابق فكرة أولية في ذهن مؤلفها. وهذه الفكرة الأولية هي فكرة أسياسية لكن غالبا ما تُنسى، وتصبح مجهولة؛ لأن معنى النص أصبح لصيقا بظاهر النص، وكأن هذا الظاهر هو الفكرة الأولية. وكما يعرف من قرأ هذه المكتبة فإن الخيط الأربط بين كتبها في تحليل الخطاب هو تحليل النصوص من منظور يكشف عما هو مسكوت عنه؛ أي كشف تلك الفكرة الأولية المنسية. يسمي سعيد السريحي مجموعة من النصوص خطابا. أي أن الخطاب عنده كمفهوم هو مجموع ما يتكّون منه. ويرى في كتابه عن تفكيك خطاب الصحوة أن مجموع نصوص الصحوة هو ما يكّون خطابها، وأن لهذا لخطاب الصحوة ظاهرا وباطنا. يحظى ظاهر الخطاب بالقبول في الوقت الذي قد يحظى باطن الخطاب بعدم القبول. ويبدو خطاب الصحوة من وجهة نظر السريحي في الظاهر خطابا منافحا عن مجموعة من القيم كالقيم الدينية والأخلاقية والوطنية، لكنه يخفي شيئا آخر. وبالتالي فإن كشفه سيزعزع ما يحاول أن يكّرسه وما يمّكنه من فرض هيمنته، ويجعل منه خطابا فاعلا ومؤثرا قادرا على التغيير.

وللحديث تتمة.