باريس، خلاف عواصم كثيرة في هذا العالم مدينة الغواية الكبرى. تعرف كيف تحبب نفسها كيف تغوي كيف تأسر وأخيراً كيف تسيطر. إنها تفعل ذلك بطريقة غريزية، علناً وفي كل الساعات. وتفعل ذلك بطريقة ساحرة دون قسر دون أي شعور بأنها تمثل أو تتصنع.

أكثر المدن الأخرى تفعل شيئاً مختلفاً: تتصنع الأهمية؛ تتظاهر بالجمال؛ تقطب الجبين لتوحي بالجدية، ترفع صوتها من خلال المال أو الصحافة، أو حتى الجنون، لتقول إنها أكثر أهمية من غيرها، أكثر ثراء أو غرابة أو حتى أكثر سفاهة.

باريس تفعل كل ذلك، أو تتيح مجالاً لأن يحصل كل ذلك، دون أن تقول إنها هذا الشيء، وحده أو هذا ما يميزها.

ربما لشعورها بالامتلاء والغنى والتعدد، تاركة هوامش لا حدود لها من أجل أن تأخذ الأشياء شكلها، وأماكنها، ويجد البشر متسعاً من الحرية ليفعلوا ما يعتبرونه ملبياً لأفكارهم ورغباتهم.

قد توجد مدن أكثر جمالاً من باريس في الصيف أو الشتاء، في الليل أو النهار، في النظام والصرامة والدقة، أو في الجنون والفوضى، لكن حين يولّي الصيف في تلك المدن، حين تزول المساحيق بانقضاء الليل، حين يختل النظام ويغيب القانون نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، مثلاً، تنكشف تلك المدن، تظهر على حقيقتها باردة قبيحة قاسية، وعشرات الصفات الأخرى التي لا تظهر عبر ربطات العنق والباقات المنشأة، وعبر صوت المال وقوة النفوذ.

ولأن باريس متعددة رحبة هكذا تفسح مجالا كبيرا لأنماط من البشر، والحياة لا تخطر على بال، تفعل ذلك ليس من أجل المزيد من السياح الأغنياء، وإنما لأن التراكم التاريخي جعلها بهذا الشكل، كما أن تكوينها أخذ هذا المسار، وبشرها بمن فيهم الغرباء اتخذوا هذا النمط من الحياة.

ومدينة من هذا النوع لا بد أن تستقطب الكثيرين، تحتضنهم حتى لو كانوا خصوماً، لأنها تعرف بالابتسامة بالجهامة، بتلك النظرة الباردة وبعض الأحيان بالقهقهات الصاخبة المجنونة كيف تجعل الكثيرين يقبلون عليها بكل رضى، وبرغبة التعايش مع المدينة، ثم الوقوع في غرامها لأنهم بالدرجة الأولى يعرفون كيف يتصرفون في الوقت الذي تتظاهر المدن الأخرى بصرامة زائدة، مبالغ فيها، لتحمل الآخرين على الامتثال والخضوع لتقاليد هي نفسها ترفضها، أو تضيق بها.

الباهي الذي غادر الجزائر متحسباً، وربما خائفاً من النتائج، وجد باريس بانتظاره. فهذه المدينة التي عرفها في وقت سابق، وبطريقة معينة، لا تخلو من، عداء، وجدها الآن تستقبله ترضى به ويمكن أن تقيم معه علاقة من نوع جديد.

بهذه الطريقة أصبحت باريس المحطة الرئيسية، المحطة التي تلتقي فيها جميع الخطوط. فإذا كانت منذ نهاية القرن الماضي تنافس برلين لتكون بداية خط الشرق، نقطة الانطلاق نحوه، فقد حسم الأمر هزيمة ألمانيا في الحربين الأولى والثانية لتحتل باريس هذا الموقع. وهكذا أصبح أي إنسان عربي أو غير عربي يريد إقامة علاقة مع الشرق، خاصة بعد أن انكشفت لندن، ولم تعد موضع ثقة، أو تتجه نحو المستقبل. ومما زاد في تأكيد هذا التباين وصول ديغول إلى الرئاسة في الوقت الذي ازداد ارتباط بريطانيا باليمين المحافظ، وازداد ارتباطها بأمريكا أيضاً، مما جعل الذين وصلوا إلى الاستقلال الناجين من الاستعمار، أقل ثقة بهذه الإمبراطورية العجوز، وأكثر قناعة بأن اليمين الفرنسي، ديغول تحديداً، أكثر عقلانية واستقلالاً، وأيضاً أكثر جرأة في اتخاذ مواقف تناسب المصالح وتناسب الذين خرجوا تواً من ربقة الاستعمار.

ليس ذلك فقط، إذ رغم التاريخ الأسود الكثيف بين فرنسا ومستعمراتها، فإن طبيعة الاستعمار الفرنسي الذي ينتقل إلى المكان الآخر بكل ثقة: لغة وثقافة وتشابكاً في العلاقات، استطاعت أن تجدد نوعاً من الثقة التي قد تسمح بنسيان الماضي والبدء من جديد. وهذا ما حصل في المرحلة الجديدة بين باريس وأكثر مستعمراتها السابقة. لا نريد هنا استعراض العلاقة الفرنسية - الجزائرية المغاربية العربية، فهذه مهمة أخرى ولكن عدداً كبيراً ومتزايداً من ملاحقي الأمس، المرفوضين الخارجين على القانون أصبحوا بمعنى ما، مقبولين قادرين على الإقامة، وقد يحظون ببعض الود والاعتراف. كان الباهي من الذين وجدوا مكاناً في باريس. لم يقدم تنازلاً، لم يطمح لامتياز لم ينتظر، ولم يقبل دعماً، فقط يريد مكاناً ليقيم فيه. وفي ذلك الوقت منتصف الستينات وكانت فرنسا تفتح ذراعيها لاستقبال الكثيرين باعتبار أن الأغلبية أيدٍ عاملة رخيصة، مسالمة، خاصة بعد الاستقلال.

في هذا المناخ عاد الباهي إلى باريس، وكانت تلك العودة، كما افترض استراحة، هدنة بين حربين لا بد أن يجد بعدها مكاناً أكثر راحة، وأكثر جدوى، لكن الشيء المؤقت، كما يقول نابليون، قد يصبح الشيء الدائم، وهذا ما حصل!

رغم التاريخ الأسود بين فرنسا ومستعمراتها فإن طبيعة الاستعمار الفرنسي استطاعت أن تجدد نوعاً من الثقة التي قد تسمح بنسيان الماضي.

1994*

** كاتب وروائي سعودي «1933 - 2004»