دائمًا ما تصادفنا عبارة (سيطرة الإنسان على الطبيعة)، في الكتب والأطروحات المتعلقة بالخطاب الحداثي باعتبار هذه العبارة البسيطة تمثل عنوانًا رئيسًا للحداثة. الإنسان أصبح يسيطر على الطبيعة ويستغلها ويستنزف مواردها ويلوث جمالها الأخاذ بصورة لا تخضع لرقابة أو تحكم، لا نقصد رقابة قانونية بالدرجة الأولى بل رقابة روحية أو دينية. معتقدات الشعوب الدينية حول الطبيعة أفرزت منظومة فكرية شاملة تتمركز حول نظرتنا للطبيعة نسميها الحداثة. يقول الباحث المغربي محمد سبيلا: «تتميز الحداثة بتطوير طرائق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية».

كيف تحول تصور الإنسان للطبيعة من المعرفة التأملية للمعرفة التقنية؟ كيف كان ينظر الإنسان للطبيعة وكيف أصبحت نظرته؟ الفلاسفة حتى وقت قريب نسبيًا يحملون نظرة ذات نمط (شعري/ أسطوري) تجاه الطبيعة يقوم على التأمل في أسرارها ومظاهر التناسق الأزلي القائم فيها. نظرة تقديس وتبجيل باعتبار الإله يحل ويتحد بمظاهرها وفق عقيدة دينية تعرف بـ(وحدة الوجود)، وهي عقيدة ممتدة من عصر أفلاطون حتى عصر ألبرت آينشتاين. الطبيعة حسب معتقد الفلاسفة اليونان ذات روح مطلقة وعقل كوني، هما عقل وروح الإله الذي يحل ويتحد مع الكون المحيط بنا في اندماج أزلي سرمدي. في كتابه «أسس الفلسفة» يقول الباحث الروسي أناتولي راكيتوف: «كانت عقيدة قدماء الإغريق تتسم بتأليه الطبيعة. وكان لكل شجرة ولكل جدول أو تل إله خاص. لهذا كانت فلسفة بلاد الإغريق القديمة تعلل أصولًا وأحكامًا تتطلب الركوع أمام الطبيعة وتفيض الاهتمام بها، لكنها في الوقت ذاته كانت تحرم تغيير شيء فيها بشكل جوهري، وتحظر إجراء التجارب بوجه عام, ذلك أن ليس من حق الإنسان تغيير الظواهر الإلهية».

كلام راكيتوف يوضح كيف أن اعتقاد الفلاسفة يتعارض مع توجهات الحداثة أو العلم التجريبي الحديث الذي ينظر للطبيعة باعتبارها عالمًا ماديًا بلا روح ولا يحمل أي قداسة،مجرد مورد طبيعي يمكن استغلاله للحصول على كم وافر من مواد الخام الضرورية للصناعة، بمعنى أن خطاب الحداثة يمثل في واقع الأمر تمردًا على عقيدة وحدة الوجود التي آمن بها فلاسفة كبار كأفلاطون وسبينوزا وهيجل وجان جاك روسو ومدارس يونانية قديمة كالمدرسة الرواقية. فنحن لا نتحدث عن عقيدة ثانوية منزوية عن سياق المجتمع بل نحن أمام عقيدة دينية تمثل اللب والجوهر في كتب الفلسفة. ونستطيع القول أن خطاب الحداثة الذي نقرأ عنه كثيرًا وكان وما زال حديث الأوساط الثقافية العربية متعلق بشكل كبير بتمرد الإنسان الغربي على عقيدة وحدة الوجود التي طالما آمن بها. الحداثة في واقع الأمر مرتبطة بمعتقد الشعوب الأوروبية حول الطبيعة، وتحولها من تقديس الطبيعة والخوف من غضبها والتفكير فيها بصورة تأملية باعتبارها مكانا يلفه الغموض وتحيط به الأسرار، إلى معتقد جديد ينظر لها ويتعاطى معها على أنها عالم مادي بلا روح وبلا سحر، نظرة كمية حسابية تقاس بالمثلثات والمربعات والأشكال الهندسية.

هذه النقلة النوعية من تقديس للطبيعة إلى استغلالها لم تمر مرور الكرام في الثقافة الأوروبية بل كانت صامدة لوجدان الشعوب، انعكس ذلك على الأدب والشعر والرواية والفن. فأدب الحداثة في القارة الأوروبية كان ردة فعل تجاه تلك النقلة التدريجية في المعتقدات الدينية المتعلقة بالطبيعة، الانتقال من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية كما يقول محمد سبيلا. فالحداثة ونظرتها تجاه الطبيعة والكون لا يمكن تعميمها على بقية شعوب العالم. فالعرب والمسلمين مثلا لهم اعتقاد مختلف جملة وتفصيلا تجاه الطبيعة، فهم في حقيقة الأمر لا يقدسون الطبيعة وكل مظاهرها تنتمي لعالم مخلوق وفان.

هناك استشهاد قدمه ابن تيمية في كتابه «الأسماء والصفات» مقولة لشيخ صوفي تمثل النظرة السائدة للطبيعة عند العرب والمسلمين -قديمًا وحديثًا- يقول فيها: «وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني، شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده قال: أحببت أن أوصي أًصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، واجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه، والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة, لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق».

كلام الشيخ الصوفي يوضح النظرة السائدة للطبيعة عند العرب والمسلمين بكل اختصار، فالله سبحانه وتعالى بائن من خلقه دون حلول أو اتحاد في الطبيعة، بمعنى أن الفقهاء العرب ينزهون الخالق عن عالم المخلوقات بصورة مطلقة لا مجال فيها للشك. إذن نظرة الفقهاء تتوافق جملة وتفصيلا مع المعرفة التقنية والاستغلال العلمي للطبيعة ولا تجد فيهما حرجًا، فالفقهاء العرب لا يقدسون الطبيعة ومظاهرها. لذلك كان الانتقال من تقديس الطبيعة إلى استغلالها باعتبارها عالمًا ماديًا بلا روح لا يمثل صدمة للوجدان العربي، وبالتالي نستطيع القول إن الحداثة متعلقة ثقافيًا وتاريخيًا بالشعوب الأوروبية، ولا يمكن تعميمها على بقية شعوب العالم بمختلف ثقافاتها ومعتقداتها الدينية.