عندما نقرأ أي نص لغوى، أو أدبى قراءة ثانية، نكتشف أن القراءة الأولى كانت خاطئة، وهذا معناه ألا نثق البتة باللغة، هذا إن حدث يقودنا إلى التيه.

هذه محاولة لقراءة التاريخ العربي أو إعادة كتابته في محاولة لفهم ما حدث، وأفضى إلى الكارثة الحالية، وقد وجدت أن ما حدث ليس جديدًا، وأن التاريخ يعيد نفسه، وهذا ما سأحاول أن أصل إليه، وهي أيضًا محاولة لفهم العقل العربي، وأن هذا العقل ممثلاً في أبي العلاء المعري عقل صحيح، ولكن لماذا لم يستجب أحد لهذا العقل؟ ولأن الزمن العربي لا عقلاني فإن الكتابة عنه يجب ألا تكون عقلانية تتخذ سبيل السرد الأفقي الذي يبدأ ببداية ويمر بوسط وينتهي إلى نهاية.. السرد يجب أن يكون فوضويًا استطراديًا، وأنا هنا لا أثبت شيئًا جديدًا فهذه هي طريقة السرد العربي ابتداء من الجاحظ ومرورًا بالمسعودی وأبي حیان وانتهاء بأبي العلاء المعري.. أنا هنا إلى حد ما أقلد رسالة الغفران.

وهذا الذي أمليه -حفظك الله وحمانا جميعًا من الخلل والزلل- نثار جديد كنت أريد أن أضع له عنوانًا جانبيًا هو رواية، ولكنني بعد المراجعة وإمعان التفكير وجدت أن الرواية جنس أدبي محدد، أي أنه قيد، أو كما قال شيخنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان، «لزوم ما لا يلزم».. في نثارى هذا سأحرص على نبذ الألقاب أو الأسماء فأقول: أبو العلاء أحمد بن عبد الله، ولن أقول: «المعري» أو «الضرير» أو «رهين المحبسين»، وسأقول: أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفي، ولن أقول المتنبي، وسأقول «البكري ميمون بن قيس»، والبكري ليس لقبًا وإنما نسبة لأن نسبه ينتهي إلى بكر بن وائل، ولن أقول.. الأعشى، ولن أقول الملك الضليل، أو «ذو القروح»، وإنما أقول ابن حجرالكندي.. وشيخنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله حذرنا من الأسماء وحذرنا من الكلمات واللغة بوجه عام، وأنها لا تكل على مسمى صحيح في غير موضوع من «لزومياته».

ورب مسمى عنبرًا وهو موهت

وليثا وفيه إن يهيج نباح

قد يسمي الفتى الجبان أبوه

أسدًا وهو من خساس الكلاب

دعيت أبا العلاء وذاك مين

ولكن الصحيح أبا النزول

إذن فعلينا أن نكون على حذر من الكلمات والأسماء بوجه خاص، ومن اللغة بوجه عام، ونحن في أيامنا هذه في أواخر فبراير من عام 1991، الموافق لمنتصف شعبان عام 1من 411، أى بعد نحو ألف عام من موت شيخنا، أبي العلاء نعيش أزمة اللغة وعواقبها وجرائرها، لغة تعلمناها وصدقناها، وكأنها اللغة الوحيدة، وكانت النتيجة أن أفضت بنا إلى ما أفضت إليه وصدام حسين رغم كل ما حدث يصر حتى كتابة هذه السطور أنه انتصر انتصارًا ماحقًا، إنها اللغة، ومرة أخرى.. حذار من اللغة.

وما أدب الأقوام في كل بلدة

إلى المين إلا معشر أدباء

وأيضاً حذار من القراءة، فما دام يتعين علينا أن نحذر اللغة فلابد من أن نحذر أي قراءة تنطلق من هذه اللغة، وهو ما ألمح إليه الفيلسوف الفرنسي ديريدا، وتوسع فيه وأضاف إليه الفيلسوف البلجيكي الأمريكي بول دي مان، مقررًا أن أي قراءة لا بد أن تكون قراءة خاطئة.

وإننا عندما نقرأ أي نص لغوي أو أدبي قراءة ثانية نكتشف أن القراءة الأولى كانت خاطئة، وعندما نعيد قراءة نفس النص للمرة الثالثة أو الرابعة، وربما الخامسة نكتشف أيضاً أن القراءات الأولى كانت كلها خاطئة، وهذا معناه ألا نثق البتة باللغة، وألا نعتمد على أية قراءة على الإطلاق، هذا إن حدث يقودنا إلى التيه.

تتمة خزنار

ويفضى بنا إلى الفوضى ، ولهذا فان دي مان يحتاط لذلك . ويقرر أن اخلاقيات القراءة . أو مايسميه " THE ETHICS OF REALING ، تقتضی منا بل تفرض علينا أن نتوقف عند إحدى هذه القراءات لتستنبط منها قوانين واحكاما - إذ لا قوام للحضارة ولا دعائم لها إلا بذلك ولكن شريطة أن لا يغيب عن بالنا ولا ننسى أن هذه القراءة خاطئة ، وإلا فإن جوزيف K بطل رواية المحاكمة لكافكا سيحاكم ويدان على ذنب لم يرتكبه البتة، وقد تنبه بعض فقهاء القانون الحديث إلى ذلك وقرروا أن المطلوب هو تطبيق روح القانون وليس نصوصه . ( ويستطيع القارىء أو الباحث أن يرجع في توثيق ما قلته إلى كتاب بول دى مان "ALLEOORIES OF READING وهو من منشورات YALE UNIV PRESS . وقد نشر في عام ۱۹۷۹ ، والمفروض اننى هنا اكتب رواية أو قراءة، ولا حاجة بي إلى إثبات المراجع . وتوثيق ما أقوله ، ولكنى أجد أن من حق القارىء أن يثبت مما أقوله ، ولو كان وليد الخيال المحض أو المجنح وشيخنا الجليل ( اعنى أبا العلاء ) جعل الله حمده مربوباً وذكره في الفؤاد مشبوباً وجد حلاً لهذه المشكلة قبل الف عام او تنقص قليلا من دي مان - عندما قرر: كذب اليقين لا إمام سوى العقل . مشيراً في صبحه والمساء ساتبع من يدعو إلى الخير جاهداً وارحل عنها ما إمامي سوى عقلى أى أن العمدة هو العقل، ولا غير ، والعقل هو العقل الفطري ، أو العقل الأول قبل أن يخضع للغة ومقولاتها . وسبيل العقل إلى إدراك الأشياء هو الحدس ، والتجربة .

1991*

* كاتب وناقد سعودي «1935 - 2015».