فالذي يبدو أن الكلمتين: التعريب والترجمة، لم توضعا في اللغة العربية لمعنى يخص: النقل من لغة أعجمية إلى اللغة العربية، فالترجمة: معناها عام لا يتقيد بالنقل إلى العربية والتعريب خاص بتعريب حروف الكلمة لا معناها الأعجمي لفظاً ورسما، وترجمة كتاب من لغة ما إلى اللغة العربية هو: نقل المعنى إلى العربية مع تعريب الكلمة التي لا توجد في اللغة العربية كلمة تقابلها أو التي لا يمكن نقل معناها مثل الأسماء.
غير أنني أرى أننا لو عممنا كلمة (التعريب) فأطلقناها على كل ما ينقل إلى العربية لفظًا ومعنى. فإننا لا نخرجها عن معناها، وإنما نحملها تعريب المعنى مع اللفظ، فتعريب المعنى مع اللفظ يزيد الكلمة تعريبًا - وأرى: أن تترك كلمة (ترجمان) على عموميتها ؛ ولذلك تراني: أفضل كلمة (معرب) على كلمة (مترجم) لكل ما ينقل من لغة إلى اللغة العربية. على أنني لا أغلط من يتمسك بكلمة (مترجم).
والشرق العربي هو: أكثر بلاد الله ازدحاما بالعناصر والنحل. وباللغات والحضارات، فقبل الإسلام تلاقت في شمال الجزيرة وجنوبها عناصر أتت من مختلف الجهات بمتنوع الأفكار واللغات والمعارف والعقائد، والتقاليد، والأساليب في معالجة مشكلات الحياة؛ فتمخض التلاقي عن متناقضات شملت كل صغيرة وكبيرة في الأخلاق الاجتماعية، والاتجاهات السياسية، والتقاليد العقائدية، والمظاهر الحضارية.. وتمخضت هذه المتناقضات عن متاعب واجهت الذين تحملوا مسؤولية السير بالثقافة مع قافلة التطور.
ولقد وصلت القافلة إلى العرب في العصر الإسلامي، حاملة ما حصلت عليه من أفكار وتجارب الأجيال في آلاف السنين بكل ما فيه من أساطير وخيال القرون السحيقة، فأقبل رجال العلم ينقلون إلى العربية كل ثمين مفيد، وأقبل معهم أدعياء المعرفة ينقلون ما يتلاءم مع مداركهم من أساطير يلونونها بما تهواه أخيلتهم، وأقبل العلماء على ما نقل إليهم يوالون الدراسة والتجارب، وأقبل معهم النقاد يفندون الغث من السمين والخيال من الحقيقة، واندس بين هؤلاء وهؤلاء الذين يحلو لهم الخيال والمبالغة في تفسير ما جاءهم من أنباء الماضي وقضاياه ومازال الموقف يتكرر جيلاً بعد جيل إلى عصرنا الحاضر، فقوافل العلم مازالت تسير ومازال الازدحام حول ما تحمله على أشده ومازال العلماء وأنصاف العلماء ومن لا يدري أنه لا يدري، ومن تستهويه المبالغة وتعجبه القشور. يملأون الأسواق الثقافية كل بما فتح الله عليه، ولو شاء الله لجعلهم في مستوى واحد.
وفي مواكب الثقافة التي تتابعت على حواضر العالم الإسلامي، احتفل الرواد بالتراث التاريخي احتفالهم بالعلوم الرياضية والجغرافية والطب والهندسة والكيمياء وغيرها.. وفي طليعة المبرزين في مجال التعريب الذين قدموا للمكتبة العربية
ذخائر حوت نصوصًا لها قيمتها: الباحثون عن مصادر التاريخ.
فمن الذين قاموا بالتعريب، فأسدَوا للمعارف العربية خدمة ما زال الباحثون في التاريخ والأدب والفنون يقدرونها حق قدرها: (عبد الله بن المقفع ) و(آل نوبخت) ويعد (نوبخت) كبير هذه الأسرة. ثم ابنه (الفضل) ومن آل نوبخت: يوسف وموسى ابنا (خالد)، ومن المعربين (أبو الحسن علي بن زياد التميمي) و(الحسن بن سهل) والبلاذري أحمد بن يحيى) و(جبلة بن سالم) - معرب كتاب رستم وإسفندار وإسحاق ابن يزيد) و(محمد بن الجهم البرمكي) معرب كتاب تاریخ فارس). و(هشام بن القاسم) معرب كتاب (تاريخ ملوك بني ساسان) و(موسى بن عيسى الكسروي) و(زادويه بن هاشويه الأصفهاني) معرب كتاب (سير ملوك فارس) و(محمد بن بهرام الأصفهاني) معرب كتاب (سير ملوك الفرس) و(بهرام بن مروان شاه معرب ومهذب كتاب تاريخ ملوك ساسان) و(عمر بن الفرخان) و(صطفن الإسكندراني) و(يوحنا. يحيى بن البطريق) و(عبد المحسن بن ناعمة الحمصي) و(حنين بن إسحاق العبادي وإسحاق بن حنين وثابت بن قرة) و(سنان بن ثابت بن قرة) و(الحجاج بن يوسف بن مطر الوراق الكوفي) و(قسطا بن لوقا البعلبكي) و(مَتَّى بن يونس) و(يحيى بن عدي) و(جورجيس بن جبرائيل) و(ابن زرعة إلى غير هؤلاء من النساطرة واليعاقبة وغيرهم من الذين نقلوا كثيراً من الكتب اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية.
ولقد لاحظ البعض على أسماء المعربين التي تتردد، وعلى المؤلفات التي تذكر كلما أثير موضوع التعريب والمعربين: أن أكبر المعربين شهرة هم: الفرس، وأن أكثر التواريخ انتشارًا هي: التواريخ الفارسية؛ فلذلك أساب منها: أن صلة التاريخ الفارسي بالتاريخ العربي عميقة ومستمرة منذ أقدم عصور التاريخ العربي إلى ما بعد الإسلام، وأن صلة التاريخ الفارسي بالتاريخ العربي ازداد عمقها بعد الإسلام.. مع الفارق في الوضع السياسي. فعمق الصلات واستمرارها فرض على المؤرخين: العناية بتاريخ الفرس قديمه وحديثه. أما غيرهم من الأمم مثل اليونانيين والرومانيين والإسرائيليين والحبشيين؛ ثم انفصلت تواريخهم في العصر الإسلامي، فلم تبق لليهود قومية، ولم يبق للروم واليونان والأحباش ظل في البلاد العربية. فلقد زال الاحتكاك بالروم بعد فتح سوريا، فلم تبق غير تلك الصلات العلمية التي تلزم الباحث العربي أن يذكرهم إذا ما تحدث عن التاريخ العربي. ومع ذلك فإن تلك الفترات التي تلاحمت فيها تواريخ اليونانيين والرومانيين والإسرائيليين والحبشيين مع التاريخ العربي، جعلت المؤرخين ينقلون في موسوعاتهم العربية كل ما له صلة بتاريخ هاتيك الأمم، فلم يغفلوا عن ذكر أنسابهم ودولهم ومجتمعاتهم ومعارفهم، مثلما لم يغفل المؤرخون فيما بعد عن ذكر (الإسبانيين) الذين اختلط تاريخهم مع تاريخ العرب فترة من الزمن، ومثلما يضطر المؤرخ اليوم إلى ذكر (الإنكليز) و(الفرنسيين) و(الإيطاليين) عندما يتحدث عن التاريخ العربي في القرن الرابع عشر من الهجرة.
أما السريانيون والكلدانيون وغيرهم ممن يرجعون إلى أصل عربي، فكما تجمعت عوامل كثيرة لقيام كيان سرياني وكلداني ذي طابع خاص، كذلك تجمعت عوامل كثيرة لإزالة الأصباغ والحواجز من الأقطار العربية التي اغتصبتها إمبراطوريات العهود القديمة - بعد عودتها إلى عروبتها الكاملة في العصر الإسلامي.
صلة التاريخ الفارسي بالتاريخ العربي عميقة ومستمرة منذ أقدم عصور التاريخ العربي وازداد عمقها بعد الإسلام
1960*
**مؤرخ وباحث وصحافي سعودي «1909 - 1984».