يميل كثير من مفكري أمتنا ومثقفيها الطامحين إلى النهضة وبناء حضارة قوية إلى استنساخ نهج حضارة أخرى وتقليدها، فالفكرة عندهم بسيطة جدًا، فإذا ما قمنا بما قامت به حضارة أخرى، وسرنا على نهجها فلا بد أن نصل إلى ذات النجاح الذي وصلت إليه تلك الحضارة، ولا ندري لماذا أصبحت فكرة الاستنساخ هذه هي السائدة في الفكر العربي المعاصر؟ أهي نتيجة للكسل الفكري فقط، أم أن ثقافة القياس العربية متعمقة في طريقة تفكيرنا؟.

إنه من المؤسف حقًا عدم وجود فكر آخر غير الاستنساخ يهدف للنهوض بالأمة، حتى باتت الأمة منقسمة بين فريقين: فريق يؤمن إيمانًا أعمى بأن الطريق المثلى لتقدم الأمة هي باستنساخ الفكر الغربي، ويمكن تسمية هؤلاء بفريق الاستنساخ الأفقي، والفريق الثاني هو فريق الاستنساخ العمودي، وهؤلاء يؤمنون أن الطريق الوحيدة والصحيحة هي باستنساخ طريق أجدادنا الذين أنشأوا حضارة في الزمن الماضي.

ويعيب الأفقيون على العموديين تجاهلهم شروط المحيط الأفقي الحالي، وأن ظروف واقع أجدادنا مختلفة عن ظروف واقعنا الحالي؛ لذلك علينا أن ننظر أفقيًا ونستنسخ تجربة الغرب بتفاصيلها، ومع أنهم محقون في نقد الفكر العمودي إلا أنهم يتجاهلون ثقافتنا العريقة، كما يتجاهلون الشروط العمودية للأمة، ويعتقدون أن انسلاخ أمة مثل الأمة العربية من جميع موروثها أمر ممكن، وأنه من الهين أن تذوب الأمة في ثقافة غيرها كما ذابت الهنود الحمر في الثقافة الأمريكية، حتى إن أحد كبار الفريق الأفقي قال مرة علينا أن نأخذ من الغرب كل شيء حتى طريقة اللبس وقصة الشعر!.

وعلى الأرجح أن هذا المفكر الأفقي لا يعتقد أن هناك علاقة سببية بين الحضارة والنهضة ونوع قصة الشعر، ولكنه أراد أن يعبر عن مدى اقتناعه بالاستنساخ الكامل الأفقي للغرب والانسلاخ عن ثقافتنا الضاربة في عمق التاريخ بشكل كامل، ومن الطريف أن أكثر ما يعيرون به الفريق العمودي هو استنساخهم طريقة لبس وقصة شعر الأجداد.

إن فريقي الاستنساخ هذين هما أيضًا نسختان من بعضهما، إذ يتشابهان في كل التفاصيل إلا في الاتجاه، ويكفي أن تنظر إلى أي عيب يصم به أحد الفريقين الآخر لتجد أن لديه نسخة مطابقة من ذلك العيب؛ ويعود السبب إلى ذلك أن كلا الفريقين -ومن حيث لا يعلمان- يفكران بنفس الطريقة الاستنساخية الخالية من الإبداع والفرادة، فمثلا عندما يهزأ الفريق الأفقي من القداسة التي يضفيها العموديون على بعض الشخصيات نجد أنه يضفي قداسة مماثلة أو أكبر على نوع آخر من الشخصيات، ونرى كذلك أن الأفقيين يعيبون تقديس بعض النصوص عند العموديين رغم أن لهم نصوصهم الأفقية المقدسة!.

ومن المضحك المبكي أنه حتى في زمان قريب إبان المد الشوعي كان هناك فريق ثالث يطالب باستنساخ الحضارة الشيوعية بتفاصيلها، ومثلهم مثل الفريقين الحاليين، كتبوا عشرات المجلدات ليقنعوا الأمة بنجاعة نموذجهم الشرقي، ولم يضيفوا أي إبداع جديد، إذ حصروا جهودهم في شرح هذا النموذج، وتبيان معالم الطريق المؤدية إليه فقط، والحقيقة أنه لا توجد حضارة في التاريخ استنسخت حضارة أمة أخرى بما في ذلك حضارة الأجداد والحضارة الغربية والشرقية.

ولذلك فإن الأمة اليوم لا تحتاج إلى مستنسخين بل إلى مفكرين يبدعون الحلول ويبتكرون الطرق للنهضة بما يتناسب مع ثقافة ودين وشروط الأمة وواقعها، ولا عيب من أخذ كل ما هو صالح من أي حضارة، فالاستفادة من تجارب الآخرين شرط أساسي لأي مفكر ناجح.