لم تأخذ عقيدة «وحدة الوجود» الاهتمام الكافي من قبل الكتاب والمثقفين العرب، باعتبارها واحدة من أهم العقائد التي حركت الأفكار وشكلت الفلسفات، وباعتبارها أيضًا عقيدة مهيمنة في الثقافة اليونانية القديمة والثقافة المسيحية واليهودية وتأثرت بها المجتمعات العربية القديمة تأثرا بالغًا، وظل تأثيرها العميق ينتقل من ثقافة إلى ثقافة ومن مجتمع لآخر. فلاسفة كبار ومؤثرون في مسيرة الفكر الأوروبي اعتنقوها ودافعوا عنها وكان مجمل أفكارهم وفلسفاتهم ليست إلا تأويلا لهذه العقيدة، الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو، ارتبط اسمه بالتنوير والعقلانية في أوروبا، كان مؤمنا بها ويمكن القول إن فلسفته بالمجمل عبارة عن تأويل لها. ففي تراث اليونان القديم وما بعده، يترتب على الإيمان بوحدة الوجود أن يقدس الإنسان الطبيعة ويعبدها ويجعل من مظاهرها محرابا يتعبد وسط أرجائه. لاعتقاده أن الإله كامن ومتصل بالطبيعة غير منفصل عنها.

في كتاب «على أبواب الثورة الأوروبية» يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت متحدثًا عن روسو وإيمانه بوحدة الوجود: «وحل محل إله الكتاب المقدس إيمان حار يوشك أن يكون مشوبًا هو الإيمان بوحدة الوجود. هناك إله، نعم، والحياة بدونه لا معنى لها ولا يطيقها الإنسان، ولكنه ليس ذلك الإله الخارجي، المنتقم، الذي تصوره الناس القساة الجبناء، إنما هو روح الطبيعة، والطبيعة في صميمها جميلة، والطبيعة البشرية في أساسها خيرة. وعلى هذا الإيمان، وعلى باسكال، سيقيم روسو فلسفته». كلام ديورانت واضح وصريح هنا، روسو كان مقدسًا للطبيعة لاعتقاده بوحدة الوجود، وبناءً على إيمانه الراسخ بألوهية الطبيعة فهو يقيم أساس فلسفته سواء فيما يتعلق بالحالة الطبيعة للمجتمع البشري (State of Nature ) أو نظرياته السياسية المتعلقة بالعقد الاجتماعي. وإيمانه العميق بوحدة الوجود يحدد موقفه الرافض للعلم والحضارة، باعتبارهما منبعا لكل الشرور ومحفزًا لفساد الأخلاق. فما دوافع هذا الموقف السلبي من العلم عند روسو؟ يعادي روسو النظرة العلمية تجاه الطبيعة التي يقدسها، فالعلم ينزع عن الطبيعة ثوب القداسة والروحانية ويجردها من سحرها الأخاذ ويهمشها ولا يقيم لها وزنا وهنا يكمن السر لكراهية روسو للعلم ورفضه للحضارة.

يقول ديورانت مفسرًا موقف روسو من العلم والحضارة: «إن رقي العلم قد أفسد أخلاق البشر أكثر مما طهرها، وإن الحضارة ليست ارتقاء الإنسان إلى وضع أسمى، بل سقوطه من بساطة ريفية كانت فردوس البراءة والسعادة» فهل نفهم من موقف روسو تجاه العلم هنا أنه يدعو للعودة والتقهقر نحو المجتمعات البدائية التي عاش فيها الإنسان وسط أحضان الطبيعة في انسجام كلي، باعتبار أن المساواة بين البشر لا يمكن تحقيقها إلا في ظل الطبيعة وتحت حكمها؟ لا شك أن تشكل الحضارات وتطور العلوم سيؤدي لا محالة لأن يهجر الناس أحضان الطبيعة المعبودة ويكفرون بقداستها وستتحول الطبيعة المعبودة في عقولهم لمجرد مصدر للمواد الخام وهذا سيولد لديهم فراغًا روحيًا سيترتب عليه بداية فساد أفراد المجتمع ووقوعهم في فخاخ الأنانية والظلم والتسلط. كانت نظرية روسو في أصل التفاوت بين البشر تمثل دعوة غير مباشرة للعودة للوراء تجاه المجتمعات البدائية والحياة الريفية البسيطة التي يعيش فيها الناس تحت ظل مساواة وهبتها لهم الطبيعة، وهي تمثل عودة نحو التدين والسلام الروحي وسط محراب الطبيعة.

إن إيمان روسو بوحدة الوجود وعبادته للطبيعة أسهم في تشكيل أفكاره التي توصف غالبًا بأنها تنويرية، ولكنها في حقيقة الأمر فلسفة مشبعة بالأساطير.